كثير التشكي، فما يجلس مجلسا إلا ويشتكي من قلة ما في يده، ويتضجر من عدم سعادته بسبب حاجته، لاسيما عندما يقارن نفسه - كعادته - بمن هم أكثر منه مالا، وأفضل حالا، وأكثر دخلا، ولا يعني هذا أنه في عداد الفقراء والمحتاجين، لا، فراتبه الشهري لا بأس به، ويسكن بيتا يملكه، ويركب سيارة خاصة، وهو من أحسن الناس مأكلا وملبسا، ومع ذلك يضيق صدرك عندما تستمع لكلامه، فتشفق عليه من حب الدنيا الذي ملأ قلبه، وشغل نفسه، وجعله يزدري نعمة الله عليه.
وهذه الظاهرة ظاهرة خطيرة، يبتلى بها كثير من الناس أمثاله، سببها نظر الإنسان إلى من هو فوقه، وما من إنسان على وجه الأرض الا ويجد من هو أفضل منه، وهذا ما اشار إليه عز وجل بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} فنظر الإنسان إلى من هو فوقه سبب هذه الظاهرة ذات النتائج الخطيرة، والآثار السيئة، والتي منها: أنها تجعل من بلي بها يحب الدنيا ويقبل عليها ويجعلها ميدانا للتنافس، ومضمارا للتكاثر، فيزدري نعم الله عليه ويعرض عن الدار الآخرة، ولذلك كان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لابي ذر رضي الله عنه قوله:( انظر إلى من تحتك، ولا تنظر إلى من فوقك، فإنه اجدر الا تزدري نعمة الله عليك) وهذه الوصية وصية عظيمة لو عمل بها هذا وغيره لعظمت نعم الله في نفسه ولهانت الدنيا عنده، ولوجد الراحة والطمأنينة، وصار شاكرا راضيا بقضاء الله وقدره.
إن هذه الظاهرة، تجعل الإنسان يتعلق في هذه الدنيا التي لا يشبع منها، فهي كالذي يشرب من ماء البحر، كلما ازداد شرباً، كلما ازداد عطشاً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب)، وعندما يتعلق الإنسان بهذه الدنيا الفانية ويجعلها ميدانا للتنافس على حطام زائل، فإن مصيره الهلاك، ففي الحديث المتفق عليه عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين، يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال:( اظنكم سمعتم أن ابا عبيدة قدم بشيء من البحرين) فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال:( ابشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما اهلكتهم) ففي أمور الدنيا ينظر المرء إلى من هو تحته، ويحمد الله على ما لديه من نعم قد حرم منها غيره، فإذا كان في جيبك مائة ريال، فانظر إلى من لا شيء في جيبه. إن كان راتبك لا يكفيك في شهرك، فانظر إلى من أودع السجن بسبب كثرة دينه، إذا كنت معافى في جسدك، فانظر إلى من أقعده المرض، وتأمل هل أغناه عن ذلك ماله؟
انظر إلى من هو دونك، يا عبدالله، واحمد الله على نعم الله عليك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:( من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه وليله، فقد حيزت اليه الدنيا بحذافيرها).
( * ) حائل ص.ب 3998 |