بعث الله نبيه محمداً- صلى الله عليه وسلم- بقرآن عربي مبين، بهر عقول فصحاء العرب، وأقام عليهم الحجة، فاعترفوا بفضل بيانه وحسن كلامه، قال الوليد بن المغيرة: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وما يقول هذا بشر جعله الله في دجى الظلم نوراً ساطعاً، آيات في إثر آيات، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، جمع فأوعى في علاج النفوس، وتقويم الأوضاع وإيقاظ القلوب، إنه حبل الله المتين والنور المبين عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، عجبت الجن من عجائبه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً {1} يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} (الجن 1 - 2).
بتلاوة القرآن والعمل به يعلو الشأن، ويزهو القدر يقول أبو ذر- رضي الله عنه- قلت يا رسول الله أوصني؟ قال: (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء). (رواه ابن حبان)، وخير الناس من تعلمه وعلمه، مكث أبو عبدالرحمن السلمي سبعين سنة يعلم كتاب الله طالباً للخيرية، تتنزل السكينة وتغشى الرحمة، وتحف الملائكة بمدارسته وتلاوته، الماهر به مع السفرة الكرام البررة، تلاوته من خير القرب، بكل حرف منه حسنة مضاعفة، ومنزلة قارئه في الآخرة عند آخر آية رتلها في دنياه، تعلمه خير من جمع المال والحطام، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين بغير إثم، ولا قطيعة رحم؟) قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: (فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آية من كتاب الله خير له من ناقتين، وإن ثلاثاً فثلاث مثل أعدادهن من الإبل). (رواه مسلم).
لقد بلغ القرآن الغاية في البلاغة والفصاحة، يعجب منه البلغاء، ويفهمه العامة والبسطاء، فأي كتاب يمكن أن يستوعب أفهام البشرية جميعا في عصور متتابعة على اختلاف مداركهم وأماكنهم ولغاتهم، وتنوع معارفهم، لما سمعه عقبة بن ربيعة قال والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة. وحين طلب المشركون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معجزات حسية من تفجير الأنهار وإسقاط السماء جاءهم الخبر: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. إنه كتاب ميسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }. ومع هذا لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، وتلاوته شفاء للنفوس من الشهوات، ودواء للقلوب من الأهواء والشبهات، وعلاج للأبدان من الأمراض والآفات {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
إن أحسن الحديث كتاب الله، وقد أفلح من زينه الله في قلبه، يقول الفضيل بن عياض: (حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو، ولا يلغو مع من يلغو ولا يسهو مع من يسهو)، وعلى قارئه الاتصاف بالصدق والإخلاص وقيام الليل ديانة وأمانة لما في جنبيه، ولن تجد طعم السعادة حتى تكون على طاعة ربك، مديما لتلاوة كتاب ربك، فداو مرض المخالفة بالتوبة والغفلة بالإنابة، وتمسك بحبل القرآن في الشدائد، فكل حبل سواه مهين، واجعل في دارك نصيباً من القرآن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل البيت الذي يذكر فيه والبيت الذي لا يذكر فيه مثل الحي والميت). (رواه مسلم).
فعطر لسانك بتلاوته وتدبر معانيه، واستمسك بهديه وأحكامه نظفر ببشرى الدنيا والآخرة. {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (سورة ص 29).
إن كتاب الله يوحد الأمم المختلفة والشعوب المتباينة تحت راية الإسلام وصحة المعتقد، يربط بينها برباط الإيمان، وعرى الدين، ويجعل منها أمة واحدة متماسكة القوى، مجتمعة الأطراف، متوحدة الصفوف {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات 10).
وإذا فرط المسلمون في العمل بكتاب ربهم حل بهم الضعف، وخنعوا للذلة وأحاطت بهم الفتنة، وساروا في سراب، وأخلوا بجانب الولاء والبراء وصدقوا الأوهام والكهان، واستمعوا لمن يدعي علم الغيب ومعرفة حلول الكوارث والمصائب بمضي القرون، وتعلقوا بالأسباب وغفلوا عن الإيمان بأن الله هو الميمون لا يقع في ملكه إلا ما يريد.
فحق على كل مسلم أن يعتز بدينه ويستمسك بكتاب ربه، وألا يداهن في دين الله.
فاحمد الله أيها المسلم على نعمة الإسلام، فهي أعظم النعم قدراً وأبلغها أثراً واجعل إيمانك ناصعاً يضيء الله لك به دروب حياتك، ولا تفرط في دينك، ولا تقلد عدوك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي).
( * ) إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف |