* الجزيرة -خاص:
أثبتت الأحداث الإرهابية الأخيرة أن التربية الإسلامية الصحيحة المستمدة من تعاليم القرآن الكريم وآدابه هي خير وقاية من الانجراف والسقوط في هاوية الغلو والتطرف، وهو ما يدعو للتساؤل حول سبل تفعيل وسائل التربية الإسلامية على مبادئ الإسلام السمحة، وماهي مسؤولية الأسرة والمدرسة في هذا الاتجاه، لمواجهة أي انحراف فكري أو عقائدي أو سلوكي.. ومضاعفة قدرة الشباب والناشئة على مجابهة دعاوى ومبررات الغلاة.
(الجزيرة) طرحت هذا السؤال على عدد من التربويين والأكاديميين والقضاة، فكانت إجاباتهم على النحو التالي:
****
أسلمة التربية
بداية يستهل د. صالح بن غانم السدلان الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض حديثه بقول الله سبحانه وتعالى عنه: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } فكل شيء أصله في القرآن سواء أصول التربية أو أصول علم الاجتماع، أو أصول علم النفس أو أصول الاقتصاد، وما يتبعه أو التكافل الاجتماعي.
وتفعيل وسائل التربية الصحيحة يعني أن تكون مربوطة بمعيار إسلامي بعيداً عن التكلف من ناحية، وبعيداً عن الانخراط في الأمور التربوية التي قد لا تتفق بعضها مع أصول التربية الإسلامية، والواجب أن نؤسلم التربية، ونؤسلم علم الاجتماع، وعلم الترابط والتواصل بين المسلمين على نور من كتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا ينفصل واجب المدرسة عن واجب الأسرة والمسجد في ذلك، فهو شيء واحد، فالمسجد والأسرة والمدرسة يقومون بمهمة واحدة هي العناية بالفرد سواء ما كان في طور التعليم والتعلم والتحصيل، ومن تجاوز ذلك، ودخل معترك الحياة سواء كان رجلاً أو امرأة من الجنسين لابد أن يعتنوا به عناية تجعل المسلم يحس حقيقة ما حوله، ويعرف ما هي الأخطار التي تحدق به، وماهي وسائل الحصانة من هذه الأخطار سواء أخطار عقدية أو سلوكية أو اجتماعية حتى يصبح لدى المسلمين حصانة ذاتية لأنفسهم والمناعة التي تحفظهم، مما يتهددهم من الأخطار، وما يورد عليهم من شبه، وما يلقى عليهم من حجج واهية تحتاج إلى أهل العلم والمعرفة في ردها وتمحيصها.
رفض الغلو والتطرف
من جانبه يقول فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد رئيس محاكم منطقة تبوك: إن المتأمل في ما ورد في القرآن الكريم من نصوص كثيرة تحث على الخيرية والمحبة والوئام والسلام لكل الإنسانية، يدرك بوضوح أن القرآن الكريم في تعاليمه وتوجيهاته يرفض الظلم والعدوان بكل أشكاله بما في ذلك ظلم الإنسان لنفسه أو لمن حوله.. قال تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ويضيف الشيخ الحميد: والإسلام جاء ليحافظ على النفس المعصومة، فجعل قتل النفس بغير حق قتلاً للناس جميعاً، وتوعد من يقترف جريمة قتل النفس بأشد أنواع العقاب، والإسلام أيضاً هو دين الحنيفية السمحة والوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، يقول الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، والقرآن الكريم وهو يؤكد على هذه الحقائق يربي الأمة ليكون كل فرد من المسلمين رسول سلام ومحبة وخير، أينما كان هو مفتاح للخير والبناء، مغلاق للشر والفساد.. وموقف الإسلام الرافض للغلو والتطرف واضح وضوح الشمس في وسط النهار، لا لبس فيه، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: (إياكم والغلو في الدين)، فالتطرف والغلو ضد وسطية الإسلام، ومخالفة لحنيفية الدين، وترسيخ هذه المبادئ في عقيدة المسلم هي أقصر الطرق للتربية الإسلامية التي تحصن الأمة من الانزلاق تفريطاً أو إفراطاً، إلا أن هذه التربية الصحيحة المستمدة من تعاليم القرآن الكريم والسنة وترسيخها على نطاق واسع يتطلب تضافر جهود الدعاة والأئمة والخطباء مع المثقفين والمفكرين والمعلمين والإعلاميين، وقبل ذلك الأسرة والمدرسة، فهي مسؤولية جماعية، وليست مسؤولية فرد بعينه، أو جهة بعينها.
مسؤولية الوالدين
ويقول د. ناصر بن عبدالكريم العقل الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الله -عز وجل- سمى كتابه الكريم، وما جاء به رسولنا- صلى الله عليه وسلم- : الهدى، والفرقان، والنور، والصراط المستقيم، والعروة الوثقى، ونحو ذلك من الأوصاف التي تدل على أن القرآن الكريم رسم منهج الاعتدال، وبينه ونها عن الفرقة والتنازع والغلو، ولذا فإنه لا خيار للمسلمين في العدول عن هذا النهج القرآني القويم، حين ينشدون الحلول لمشكلات الخروج عن الاعتدال والنزوع إلى الغلو وسبيل ذلك هو التكامل في جهود المسلمين في المنهج والعمل، حيث يتحمل كل مسؤوليته ويؤدي أمانته في تربية ناشئة المسلمين على السنة التي هي سبيل الاعتدال والاجتماع والوحدة والأمن، وانطلاقاً من أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- (كل راع وكلكم مسؤول عن رعيته) حديث صحيح.
ويضيف د. العقل إن المسؤولية تبدأ بالوالدين (ولا تنتهي بهما) فيجب أن يعنيا بدين الولد في عقيدته وأخلاقه وتعامله مع ربه أولاً، ثم مع الخلق، كما أرشد إلى ذلك القرآن الكريم في سورة الإسراء:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {24} رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً {25} وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} سورة الإسراء، وكذلك ما جاء في سورة لقمان في وصيته لابنه، بعد ذلك تأتي مسؤولية العلماء ثم مسؤولية المعلمين والمؤسسات التربوية والإعلامية ومسؤولية الدولة والمجتمع كله وهكذا، انطلاقاً من الحديث السابق (كلكم راع...) ومن قوله تعالى {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا....}، وقوله {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}، وجماع ذلك كله قول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- حينما سئلت عن خلق النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت: (كان خلقه القرآن) حديث صحيح إذا اشتمل القرآن، وهو كلام الله تعالى كل أصول التربية ومناهجها، وكثير من مفرداتها التي لابد أن يعيها المسلمون، ويعملوا بها إذا أرادوا العزة والفلاح.
الحوار مع الطلاب
أما الدكتورعماد بن زهير حافظ الأستاذ المشارك بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فيقول: إن تفعيل التربية الإسلامية علىمبادئ الإسلام السمح، ونبذ الغلو يبدأ بتربية البناء منذ صغرهم على فن التعامل مع الآخرين على مختلف أديانهم ومذاهبهم وفق تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، فالولد منذ الصغر عارفاً فينشأ بهدي الإسلام في التعامل مع المشرك والذمي والمعاهد والمستأمن، ولا غنى عن استعراض السيرة النبوية في ذلك.. وبيان كيف أن الإسلام دين يحسن التعامل مع الجميع في حدود المحافظة على مصلحة الأمة، وأن شريعته تقوم على التسامح ونبذ كلّ أشكال العنف والتطرف.
ويضيف د. عماد حافظ: ومن الأهمية بمكان اشتمال المناهج المدرسية على ما سبق ذكره، فيتعلم الطلاب هدي القرآن والسنة في ذلك، وتستعرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن، وتوضح توضيحاً كافياً مع استعراض أحداث السيرة النبوية في الفترة المكية، ثم في الفترة المدنية، وكيف كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- متدرجاً في سيرته إلى أن أسس وضع نظام متكامل في التعامل مع الآخرين مع فتح مجال الحوار مع الطلاب، فيما تقدم حتى يزال اللبس، ويتضح الأمر على ما أراده الشرع الحنيف وبينه.
ولاشك أن الأسرة تشترك في هذه المسؤولية مع المدرسة في نطاق دائرة أوسع من مسؤولية المجتمع بأسره للتعريف بالآثار والأخطار التي تترتب على الغلو والتطرف مع استعراض تاريخ الأمة في ذلك، كذلك بيان الآثار والفوائد الإيجابية في تحقيق مبادئ الإسلام واستعراض تاريخ الأمة في ذلك أيضاً، وهذا مما يعمق الفهم الصحيح لدى الناشئة والشباب.
أخطاء التربية
أما د. سليمان الحقيل أستاذ التربية بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض، فيقول: :إن سقوط بعض الشباب في عدد من الدول الإسلامية في دائرة الغلو والتطرف، لم يأت من فراغ، وإنما نتيجة لعدد من الأسباب في مقدمتها أخطاء التربية التي تقع في مرحلة الطفولة المبكرة.
فقد يكون التطرف له بذور في نفس الشخص نفسه في مرحلة الطفولة، أو عند أبويه، أو إخوته، والتربية الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم تستطيع تخليص الفرد من بذور التطرف قبل أن يستفحل خطرها، ومن هنا تأتي أهمية التعريف بوسائل تفعيل وترسيخ مفاهيم هذه التربية التي للأسف يجهلها كثير من الآباء والأمهات.
ومن أنجح هذه الوسائل ربط الناشئة بكتاب الله منذ الصغر، وتشجيعهم على ذلك، وشرح معاني القرآن الكريم لهم بأسلوب مبسط، ولا سيما فيما يتعلق بعلاقة المسلم بإخوانه المسلمين وعلاقته بغير المسلمين، وترسيخ مبدأ الحوار بالحسنى والجدال بالموعظة الحسنة، واحترام رأي الغير.. سواء عن طريق الأسرة أو المدرسة أو المسجد أو غيرها من المؤسسات والهيئات.
ويضيف د. الحقيل ومن المفيد في ذلك أيضاً التعريف بمكانة الراسخين في العلم، كما دل عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة، فإعلاء مكانة العلماء هو أول خطوة لنفاذ كلمتهم والتفاف الناس حولهم، والأخذ عنهم، وهذا يتحقق بترسيخ احترام المعلم والمدرس في نفس الطفل في المدرسة أو حلقات التحفيظ.
وإذا كان الأب هو القدوة التي يتأثر بها الطفل في سنواته الأولى، ثم المعلم بعد ذلك، فإن مسؤولية الأسرة والمدرسة تأتي في المقدمة، فلابد أن يقترن سلوك الآباء والمعلمين بأعمالهم، فلا نستطيع أن نرسخ التربية الإسلامية الصحيحة ونستفيد منها في حماية النشء من الانحلال أو الانحراف أو الغلو، ما لم يكن سلوكنا نحن الكبار مرآة لهذه التربية، ففاقد الشيء لا يعطيه.. والأب الذي لا يقرأ القرآن كيف يربي ابنه علىآدابه وتعاليمه؟ وهكذا.
وخلاصة القول والكلام مازال للدكتور الحقيل، أن القرآن الكريم مدرسة عظيمة لتخريج أمثل وأفضل النماذج البشرية متى وعوا أوامره وتوجيهاته وآدابه، وأن العصور يمكن في جهود الاستفادة من هذه التوجيهات والتعاليم في تربية النشء، وتجاوز هذا القصور هو مسؤولية الجميع بلا استثناء، وإن اختلف زمن القيام بها من مرحلة إلى أخرى وفقاً لتطور العمر من الطفولة إلى الشباب.
|