عرضنا في حلقات سابقة لوقفات هامة ومتعددة، وفي هذا الطرح نقف على شروط الأمر بالمعروف، وفي ذلك قال العلماء كما في شرح النووي على صحيح مسلم - رحمهما الله -: (ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه بل عليه الأمر وإن كان مُخلاً بما يأمر به وعليه أن ينهى وإن كان متلبساً بما ينهى عنه ويجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلَّ بأحدهما كيف يُباح له الإخلال بالآخر)، وقال بعض أهل العلم كما في تفسير القرطبي: (وليس من شروط الناهي أن يكون سليماً عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً) وعن الحسن البصري أنه سمع مطرف بن عبدالله يقول:(لا أقول ما لا أفعل فقال: وأين يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم، فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر).كما روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ... } (105) سورة المائدة وأنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) قال الإمام النووي رحمه الله في هذا الصدد وأما قول الله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فليس مخالفاً لما ذكرناه - يقصد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كُلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىِ}، وقال ابن تيمية رحمه الله:(وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذمّ المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال، وذلك يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك أدنى أو أضعف الإيمان. وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان، وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية، ثم أورد قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه السابق ذكره.
الفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه، وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر.. إلى أن قال: فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو متعدٍ في حدوده).
|