* تلخيص وتعليق - د. حمد بن محمد الفريان:
هذا هو عنوان للمحاضرة التي ألقاها الاستاذ الدكتور احمد بن محمد الضبيب في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات بتاريخ 24-3- 1425هـ ومما جاء فيها ان التحديات يمكن تصنيفها إلى صنفين: تحديات عامة وتحديات خاصة.
وقال: ان التحديات العامة هي تلك التي تتصل بالواقع اللغوي الذي تعيش فيه اللغة والظروف المهيأة لها او المفروضة عليها من قبل مستعملي هذه اللغة أو غيرهم وتتعلق بقدرة هؤلاء على الدفع بلغتهم إلى الأمام أو التقهقر بها إلى الخلف. وخلص إلى ان من أهم التحديات العامة التي تواجهها اللغة العربية هذه الأيام مزاحمة اللغات الاجنبية لها وما تبع ذلك من قيام واقع لغوي مشوه وضار بالنسبة للغة العربية وهو واقع لا يشبهه واقع على امتداد التاريخ العربي.
أما التحديات الخاصة فهي تلك التحديات التي تتصل باللغة ذاتها من حيث قدرتها على استيعاب احتياجات العربي المعاصر ووصله بالجديد من العلوم، والمخترعات، والاستجابة لمتطلبات العصر في مجالات التقنية وصناعة المعلومات ونحو ذلك، وأضاف قائلاً: ان ما تحقق في ذلك يبشر بنتائج باهرة تستحق المتابعة والتشجيع لكن النجاح في التغلب على التحديات الخاصة التي تواجه اللغة لا يكون متحققاً أو كاملاً إلا إذا استطعنا القضاء على التحديات العامة.
وبناء على هذا ركز المحاضر على التحديات العامة على اعتبار أن ذلك مفتاح النجاح في المهمة ذاتها.
ويقارن المحاضر بين مزاحمة اللغات الاجنبية للغة العربية في غابر الأزمان ومزاحمة اللغات الاجنبية للغة العربية في الوقت الحاضر فيقول ان اللغة العربية كانت في مركز القوة وكانت كفتها هي الراجحة وكانت مزاحمة عفوية ناتجة عن دخول أمم متعددة في حظيرة الاسلام وكل أمة لها لغتها التي نشأت عليها وتحبها وتحاول المحافظة عليها فحصل الاحتكاك بلغات العالم المنضوي تحت راية الدولة الإسلامية وقد تعايشت مع بعضها وأزاحت بعضها من الوجود الوظيفي فحلت اللغة العربية محل تلك اللغات في دواوين الدولة وحلقات العلم. لكن اللغة العربية وان اصبحت لغة الأدب والعلم والحضارة الإسلامية على مدى العصور إلا أنها لم تخل في تاريخها الطويل من الضعف والترنح احياناً. هذا الواقع دفع المؤلفين والعلماء إلى الغيرة على اللغة وبث الشكوى من قلة الاهتمام باللغة. وقد حفزهم ذلك على التجرد حسب اجتهادهم لوضع الامور في نصابها من حيث الاهتمام باللغة العربية ونتيجة لهذا برزت سلسلة من المؤلفات استهدفت لغة عامة المثقفين وخاصتهم وتصدت للتصحيح وبيان ما دخل للغة من انحرافات عما سمع عن العرب أو نطق به الفصحاء. واستشهد المحاضر بما أورده ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) وغيره حول ما كان يساور العلماء من هواجس حول الصحة اللغوية وذكر أن ما أحاط اللغة في مسيرتها من قلاقل قد يكون من الأسباب الكبيرة التي يعزى إليها حفظ هذه اللغة في مستويات يتدرج فيها الكتاب والمؤلفون حسب تكويناتهم العلمية واستعداداتهم اللغوية ضمن إطار اللغة الفصحى.
وإذا كانت التحديات السابقة التي واجهت العربية قد سببت كثيراً من القلق فإن من الواجب على العرب في الوقت الحاضر أن يشتد قلقهم وان يزداد خوفهم على اللغة لأن التحديات المعاصرة اكثر قوة وضراوة من التحديات القديمة، ففي التاريخ القديم ابان الدولة الإسلامية الأولى كانت اللغة العربية هي لغة الغالب وكان الجميع يتسابقون إلى تعلم لغته واجادتها، وفي عصور الضعف التي طرأت على الأمة الإسلامية في الحقب الماضية كان للغة سندها من الشعور الروحي في ضمائر الناس وفي وجداناتهم بوصفها لغة التنزيل الكريم ويؤيدها ايضاً الشعور الذي ينتظم الامة من اقصاها إلى اقصاها بأن اللغة العربية هي لغة الأمة والرابط الوثيق بين ابنائها. وفي بداية العصر الحديث دخلت العربية في صراع مع اللغة التركية ثم في صراع مع لغات الدول المستعمرة وكانت اللغة العربية في موقف الدفاع لكن اهلها كانوا يؤملون بأن هذا الصراع وقتي يزول بزوال الدول المتسلطة او المستعمرة. وقد باشر الغيورون في إنشاء المجامع اللغوية يحدوهم الامل والتفاؤل حيث راهن البعض على عودة الفصحى قوية عزيزة في بلدان العرب حينما تنال استقلالها. لكن الامور لم تجر على هذه الصورة من الامل والتفاؤل فقد نزل المستعمر بثقله واعلن عن نياته وباشر هجومه على لغة الأمة، ففي مصر الغي التعليم باللغة العربية في جميع مراحل الدراسة واحل المستعمر محلها اللغة الانجليزية. وفي الشمال الافريقي فرض المستعمر الفرنسي لغته. ومكث التعليم بغير العربية في مصر زهاء عشرين عاماً وبموقف صلب من جماهير الامة المصرية عادت اللغة العربية إلى صفوف التعليم في مصر.
أما ما حصل للغة العربية بعد زوال الاستعمار فيقول عنه المحاضر ان العرب انحرفوا نحو التغريب وتنكبوا طرق النهضة الصحيحة التي بدأها الرواد الاوائل وهي الطرق الطبيعية التي احتذتها معظم الامم الناهضة والتي يلحظها كل من تأمل تجارب هذه الأمم في صياغة مستقبلها الحضاري، وهي طرق تعتمد على التحديات النابع من الذات والمتفاعل مع الآخر وتعد اللغة الوطنية من أهم ركائزه.
ويضيف قائلاً: التحديث هو سبيل النهضة أما التغريب فهو السبيل إلى تدمير الهوية والقضاء على المقومات الأساسية لشخصية الامة، ومن المؤسف ان الاتجاه نحو التغريب سار بسرعة مذهلة وانساق إليه الجميع في بلداننا العربية دون تفكير او تأمل. وفي هذا الوقت تواجه اللغة تيار العولمة حيث هجمت العولمة على الأمة العربية بسماتها الاستهلاكية الشرهة وبهيمنتها الإعلامية والمعلوماتية، فانبهر العرب بها وبما تحمله معها من وعود سرابية فلم ينظر إلى العولمة بصفتها غازية وانما نظر اليها بصفتها مطلوبة مرغوبة تحمل في يديها بشائر الرخاء وبوادر الأمل.
ويورد المحاضر انتقاد الكاتب الانجليزي للمثقفين العرب الذين يناصرون اللغة الاجنبية ويدافعون عن جعل لغة التعليم المقررة في المدارس اللغة الاجنبية.
حيث يقول ثيودور روثستين في كتابه المسمى (دمار مصر) والمترجم بعنوان (تاريخ المسألة المصرية). و(لغة التعيلم المقررة في هذه المدرسة وغيرها من المدارس العالية ليست العربية ولكن الانجليزية ثم الفرنسية إلى حد ما، وهم يجيبون عن ذلك التفضيل بأن اللغة العربية ليست لغة علمية وبأنه لا يوجد بها كتب مدرسية وافية بالغرض وانه من الصعب الحصول على اساتذة يعرفون اللغة العربية. هذا الطعن او ما يتعلق منه على الاقل بطبيعة اللغة والكتب المدرسية سخيف للغاية امام ذلك التاريخ المجيد تاريخ الحضارة والعلوم العربية في القرون الوسطى).
ايها القارىء العزيز أليس من حق كل عاقل غيور أن يعلق على هذا المشهد المؤثر الذي دعا هذا الاجنبي بوازع من عقله وعلمه ان يستسخف موقف بعض المثقفين العرب من لغتهم العربية. إن أقل ما يوصف به هذا المسلك هو ان يقال عنه بأنه سخيف فالمثقف العربي لم يسلك هذا المسلك مكيدة وانما فعله مجتهداً ولكنه اخطأ في اجتهاده. اما المستعمر فقد فعله متعمداً الحاق الأذى بالأمة وتدميرها والقضاء على تقدمها وقد نجح في مسعاه. أوليس من حقك ايها القارىء الكريم ان تتأمل هذه الحالة المؤلمة التي رضي المثقف العربي ان يوصم بها؟ لاشك انها حالة يندى لها الجبين. يقول احد المسؤولين في دولة البوسنة والهرسك : (نحن في دولتنا ندرس جميع العلوم الطب والهندسة وغيرهما من جميع العلوم باللغة البوسنية) ويتعجب اشد التعجب من ان الامة العربية صاحبة اللغة العظيمة ذات اللسان العربي المبين ترضى بأن يدرس اي علم بغير اللغة العربية.. اذن خطأ بعض المثقفين العرب كبير ومردوده سلبي وهو مضاد لتوطين التقنية. ولا بد للعرب من محاسبة النفس في هذا الخصوص والعودة الى جادة الصواب طال الزمان او قصر لأن من الحكمة الرجوع الى الحق وعدم التمادي في ضده. ولا ينبغي الخلط بين تعلم اللغة الأجنبية والتعليم بها فتعلمها مطلوب ومرغوب اما جعلها لغة التدريس للمواد المقررة فهو النشاز وهو محل التوقف.
ايها القارىء العزيز قبل ان اختم هذا الملخص عن محاضرة الاستاذ الدكتور احمد الضبيب لا بد من وقفة حول مثلين ضربهما المحاضر احدهما يحكي عناية الدولة الفرنسية بلغتها والآخر يبين مسلك دولة اليابان حيال اللغة اليابانية.
ففي فرنسا بات الدفاع عن اللغة الفرنسية هدفاً رئيسياً في الوقت الحاضر في مواجهة العولمة ادراكاً منها لاهمية اللغة في تكوين شخصية الامة فاتخذت لنفسها سياسة لغوية الزمت بها نفسها، فالاكاديمية الفرنسية تقوم بالشق العلمي مما يتصل بالسياسة اللغوية وتقوم الوكالة العامة لصياغة المصطلحات بسك المصطلحات البديلة للمصطلحات الانجلوسكسونية وتنشر هذه المصطلحات في الجريدة الرسمية كما يطلع عليها بواسطة الاتصالات (المينيتيل) وتقوم المنظمة الفرنكفونية بالترويج للغة داخل البلاد وخارجها، وتقوم الجهة التشريعية باصدار القوانين والتعليمات المتعلقة باللغة وتقوم الجهات التنفيذية المتعددة بالمراقبة وتطبيق القوانين بدقة.
أما في دولة اليابان فهناك المجلس الوطني للغة وهو مكون من خبراء لغويين وتطبق قرارات هذا المجلس من قبل مجلس الوزراء فيما يخص الإدارات الحكومية. وهذا المجلس هو الذي يعنى بوضع السياسة اللغوية والتطبيقات المتعلقة بها. وقد طلب من المجلس سنة 1993م ان يعد دراسة للوصول الى سياسة لغوية يابانية تفي بمتطلبات العصر الحاضر من جميع النواحي. وإلى جانب ذلك تقوم وكالة الشؤون الثقافية بالاستجابة لرغبات الجماهير المتعلقة ببعض قضايا اللغة اليابانية وذلك باصدار الكتيبات التي تشرح هذه القضايا بلغة سهلة ميسرة كما تصدر سلسلة شعارها: (نحو استعمال جميل وغني للغة اليابانية) وهي تتكون من اشرطة مرئية وسمعية تشرح الجهود المبذولة لتعزيز اغناء هذه اللغة وتبين مواضع الجمال فيها. ومنذ عام 1993م تقوم هذه الجهة بعقد الندوات والمناقشات مع الجمهور حول السياسة اللغوية اليابانية. وفي هذه الاجتماعات تشرح قرارات المجلس الوطني للغة اليابانية وتتلقى آراء المشاركين في مختلف انحاء اليابان لمعرفة اللغة المعاصرة ومعرفة سلوك اليابانيين اللغوي، والتغير اللغوي للغة عبر الأجيال، كما يقوم باجراء الدراسة المتعلقة بتعليم اللغة اليابانية لليابانيين وغيرهم.
ثم عرج المحاضر على واقع الامة العريبة فيما يخص التشريعات اللغوية فقال: (إن من المعروف ان معظم الدساتير العربية تنص على ان اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.. ومن المعروف ان بعض البلدان العربية قد أصدرت قوانين تتعلق بوجوب استعمال اللغة العربية في المكاتبات واللافتات مثل القانون رقم 115 لسنة 1958م في الجمهورية العربية المتحدة ومثل نظام الأسماء التجارية في المملكة العربية السعودية إلى جانب قرارات من مجلس الوزراء بضرورة مراعاة الكتابة باللغة العربية في جميع المصالح العامة والخاصة وقرارات أخرى من جهات اخرى. والمشكلة لا تكمن في اصدار القوانين والأنظمة وإنما في تطبيقها، ففي البلاد المتقدمة تكون حلقات متصلة بين الاجهزة التشريعية والتنفيذية فإلى جانب اصدار التشريعات نجد الاجهزة التنفيذية المنوط بها تنفيذ هذه القوانين والتعليمات تقف بالمرصاد للمخالفين وتطبق الانظمة بحذافيرها دون تهاون بينما نجد الوضع في البلاد العربية مختلفاً تماماً. اذ ليس للمؤسسات اللغوية رأي مسموع في الحياة العامة واذا صدرت القوانين والتعليمات فليس هناك جهات مختصة منوط بها مراقبة الوضع اللغوي وتطيبق الانظمة والقوانين التي تهدف إلى حماية اللغة) ويضيف قائلاً: (إن الخلل الإداري في هذه الناحية يعد نتيجة طبيعية لحالة الغفلة اللغوية التي يمر بها العرب في هذا العصر، فالاحساس بأهمية اللغة التي تعد لدى الامم عنواناً للهوية وركيزة من ركائز النهضة يتضاءل بصورة واضحة على جميع الساحات، ولذلك فان الحاجة ماسة إلى وضع سياسة لغوية تهدف أول ما تهدف إلى تربية النشء على احترام اللغة وتوعية المواطنين بأهميتها واصدار التشريعات بجعلها متطلباً ضرورياً في التعليم والإعلام والعمل وجميع نواحي الحياة). ويواصل حديثه قائلاً: (إن التحدي الذي تواجهه اللغة العربية في هذا العصر ليس واقعاً بفعل الغزو العولمي الجديد وحسب ولكنه يتبدى بوضوح في الاستسلام لهذا الغزو من جهة والدعوة له والتمكين لأهدافه من قبل اناس محسوبين على الفكر العربي والثقافة العربية، ومن هنا يبدو هذا التحدي للغة اشرس انواع التحديات واكثرها تأثيراً في مستقبلها.
إن الخوف من هذه التيارات العاتية ليس حكراً على العرب وحدهم إذ هناك شعور عالمي يتنامى للوقوف امام التيارات العولمية والحفاظ على الثقافات الخاصة لشعوب الأرض. ولسنا بدعاً من هذه الشعوب حين نخاف على مكونات ثقافتنا ان تزول وفي مقدمتها اللغة). إن الدفاع عن اللغة وحمايتها لا يكون عن طريق التوصيات العامة التي تصدرها بعض الجهات المعنية باللغة او تخرج من قاعات المؤتمرات التي تعقد لهذا الغرض ثم تظل حبيسة الادراج لا يستطاع تنفيذها بفعل غلبة التيار المعاكس عليها، او انعدام الوعي بأهمية اللغة في الحياة وتأثيرها على الهوية. وإنما يكون بتبني وسائل ناجعة اخرى تعيد للغة مكانتها في وجدان الجماهير نتيجة قناعة ذاتية بأن النهضة المستشرفة تبدأ باحترام الانسان العربي لذاته اولاً. ومن أهم مكونات الذات هذه اللغة التي هي حصن ثقافته، ووعاء فكره، وعنوان نبوغه، فاللغة كما يقول ستاندال: (هي مفتاح عبقرية الأمة) إن استنبات الوعي اللغوي لدى الجميع ورعايته على جميع المستويات مطلب ملح حتى يتحقق الامل المنشود.
هذه مقتطفات من هذه المحاضرة القيمة التي املاها الاخلاص ودعمها الاختصاص فلا يستغرب ان يتفاعل معها جمهور الحاضرين وتحظى بحضور كثيف وبتقديم متميز ومداخلات هادفة فزادها ذلك اثراء فوق اثراء.
وقفة:
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبه
فواعجباً إن سالمتك الأباعد |
|