تم في المقال السابق مناقشة جانب الأمن الاقتصادي ومتطلباته. إن مناقشة أي جانب من جوانب الأمن في المملكة لا يعني أنها منفصلة أو أن لا علاقة بين الجوانب المختلفة بل إن العلاقة وثيقة جداً ولكن الفصل فقط ظاهرياً وللتوضيح. إن الأمن الاقتصادي يختل باختلال الأمن الاجتماعي واختلال الأمن السياسي. وعلى هذا الأساس فإن الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أي بلد من البلدين تمثل الركائز والنسيج الأمني لهذا البلد أو ذاك. تبقى الجوانب التنظيمية والتخطيطية لتدعيم لحمة هذا النسيج ليتشكل في نهاية الأمر الاستقرار العام والأمن العام للدولة بمفهومه الواسع والأشمل. أما فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي فأعتقد أننا في المجتمع السعودي والمجتمعات العربية والإسلامية نمر بأخطر مرحلة في هذا الجانب. إن خطورة هذه المرحلة تأتي من خلال انعكاسات ما تتضمنه من أنماط حياة تتعلق بجوانب الحياة اليومية للفرد، وبالتالي تبعات هذه الحياة التي تنعكس على شكل ممارسات سواء كان ذلك على الجانب السلوكي أو الجانب الترفيهي أو الجانب التحصيلي العلمي أو جانب العلاقات الأسرية أو جانب العلاقات الاجتماعية أو الجانب الأمني العام وغيرها . والسؤال لماذا المجتمع العربي والإسلامي بشكل خاص؟ ولماذا لاتكون المجتمعات كلها تمر بهذه المرحلة؟ ثم ما هو وضع الدول النامية فيما يسمى بالعالم الثالث؟ هل هم بمنأى عن هذا الخطر؟ والجواب على ذلك في اعتقادي يشتمل على عدة جوانب. الجانب الأول : هو أن التغيرات والتحولات سنة من سنن الحياة ولا يمكن بأي حال أن يبقى أي مجتمع على ما هو عليه في كل جوانبه وبخاصة الجوانب البعيدة عن النواحي العقدية الثابتة. وهذا واضح في جانب الشريعة الإسلامية التي لم تتغير ثوابتها منذ أكثر من 1400 سنة ولكن هذا من المفترض ألا يعني الجمود وعدم استيعاب هذه القواعد للمستجدات والتحولات والتغيرات التي يمكن ملاءمتها مع العقيدة. ولا شك أن التحولات والتغيرات في المجتمعات مطلوبة وبالتأكيد في الاتجاه الإيجابي الجانب الثاني : هو أن الدول الغربية مرت بهذه المرحلة من التحولات والتغيرات الاجتماعية منذ بداية الستينات ومع ظهور ألفس برسلي وتقليعاته وما تبعها من تمرد في جيل الشباب وفي النظام الأسري الغربي، وكان الصراع محتدماً بين الأجيال، ولكن واكب ذلك سن قوانين وأنظمة تدخلت في حياة الأسرة جعلها تلزم الأسرة مثلا بتعليم أبنائها مباشرة عندما يصلوا سن السادسة أو سن التعليم بحيث إن التعليم إلزامي ويعاقب القانون من يتأخر في إدخال ابنه أو ابنته للمدرسة في ذلك السن. هناك قوانين تحدد مسؤلية الأسرة فيما يتعلق بتصرفات أبنائها في سن ما قبل 18. انفرط عقد الأسرة وأصبح من حق الابن أو الابنة أن يتركا البيت في سن 18 أو 21. وبمعنى آخر تغيرت المعايير الاجتماعية والأخلاقية لدى المجتمع الغربي التي بلا شك كان الكثير منها مستنداً إلى أساس ديني. على سبيل المثال كان المجتمع الكاثوليكي في إيرلندا وغيرها يعيب بل يستنكر وربما يعاقب المرأة التي تنجب مولوداً سفاحاً. وهذا الأمر كان قبل نهاية الستينات بل في بداية السبعينات ولكن تأثر هذا المجتمع الإيرلندي بالتغيرات الاجتماعية التي حدثت في الولايات المتحدة التي قادت إلى تغير جذري في هذا الجانب وأصبحت الصداقة بين الجنسين وما يترتب عنها من إنجاب أمر طبيعي. وقد يعترف الصديق وقد لا يعترف في البدايات والإنكار كان السمة الغالبة ، ولكن طرأ تغير في طرق إثبات الأبوة. على كل حال تفكك الأسرة أصبح أمراً شائعاً ولكن لا يعني هذا أنه ليس هناك أسر في الغرب تحافظ على الطريقة الصحيحة في الارتباط عن طريق الزيجات المشروعة. ولكن أصبح الوصول إلى الزواج يمر بمراحل ولا يتأتى إلا من خلال المرور بتجارب غير مشروعة في نظر الشرائع السماوية التي تبدأ بالتعارف وتنتهي بالعلاقة غير المشروعة وقد تنتهي بالزواج وقد تنتهي بذهاب كل إلى طرف آخر جديد. ربما يمر الرجل في المجتمع الغربي وكثير من دول العالم اليوم بصداقة وتعارف وعلاقة غير مشروعة لأكثر من 10 مرات وكذا المرأة. ومن هنا أصبح الأمر عادياً بالنسبة لهذه المجتمعات وأصبح هذا الجانب سلوكاً ممارساً لا عيب فيه. بل أصبحت المرأة البكر في نظر الغالبية جاهلة ولا خبرة لها في الحياة رغم أنه قد لا يكون هناك في هذه الأيام امراة تتزوج وهي بكر في تلك المجتمعات. أصبح هذا الأمر عادياً ومقبولاً رغم أنه مخالف لكل الأديان السماوية كما أصبح جزءاً راسخاً في ثقافة الغرب وبدأ يغزو الشرق الأقصى. لا شك أن هذا الأمر أفرز ظواهر اجتماعية سيئة فكثرت أعداد اللقطاء. كما وجدت التشريعات المتعلقة بالإجهاض لمن لا ترغب في الاحتفاظ بالجنين. وظهر الصراع بين المؤيدين والمعارضين للإجهاض. ووجدت العيادات السرية وغير الشرعية. ولكن ما أثر ذلك على المجتمعات العربية والإسلامية؟ يجب الاعتراف بأنه أثر وبشكل كبير ولقد أصبح هناك فئآت من المجتمع العربي والإسلامي تمارس مثل هذه العلاقات المحرمة. التشريعات تمنع مثل هذه العلاقات ولكن هناك بعض من هذه الممارسات في بعض البلدان العربية والإسلامية وربما يغض الطرف عنها. تأتي هذه العلاقات تحت ستار الصداقة البريئة والتعارف. لا أحد ينكر الغريزة والرغبة الجامحة لدى الشباب من الجنسين في بعضهما البعض وهي من أصعب الغرائز التي يصعب السيطرة عليها في ظل وجود أجواء تيسر مثل هذه العلاقة غير المشروعة. ولكن هل الدوافع هي رغبة في التمرد على الدين أو عادات المجتمع الشرقي ورغبة في تقليد المجتمع الغربي؟ أنا أعتقد أن الدوافع متعددة وأصبحت أساساتها تتدعم يوماً بعد يوم. الدافع الأول هو الخلل في التربية والتنشئة الاجتماعية والدينية. وهذا الخلل يتعلق بالبيت والمدرسة والسلوك الاجتماعي العام. المدرسة تحتوي على مناهج دينية فيها وعد ووعيد ولكنها تخلو من الجانب التربوي الذي يبين السلوك ويوضح النتائج للممارسات الخاطئة وانعكاساتها الصحية والاجتماعية وضرب الأمثلة على ذلك. المدارس والمؤسسات التعليمية بشكل عام تخلو من الجو الاجتماعي الذي يقرب الأستاذ من التلاميذ والطلاب. العملية التعليمية في عمومها في المجتمعات العربية والإسلامية لا تتجاوز بشكل عام الأوامر والنواهي والتقوقع داخل المنهج التعليمي وإظهار التجهم لإثبات الشخصية. الابتسامة غائبة الشكر والثناء على الطالب عند إجابته سؤال يطلب منه الإجابة غائبة. عند الطلب من الطالب القيام بعمل شيء يتعلق بالدراسة يكون مقروناً بالأمر والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يفعل ما طلب منه. وهنا يغيب الطلب بلطف من قبل المدرس للطالب وهذا بلا شك ينعكس على الممارسات السلوكية للطالب فيما يتعلق بما يطلبه من أمه وأخته وأخيه وأبيه وأقربائه وأي تعامل يتعامل فيه بهذا الشأن في المجتمع. وبالتالي تصبح العملية التعليمية جافة ومملة وقاصرة ، بحيث تركز على التلقين والحفظ والاسترجاع بعيداً عما يدور في المجتمع الخارجي وكيفية التعامل معه. ومن هنا لا بد أن ينشأ نوع من التمرد في جوانب عديدة. إن هناك أشياءً وأموراً ليست مضمنة في المناهج وهذا لا يعفي المدرس في التعليم العام أو التعليم العالي من الإشارة إليها بين وقت وآخر. على سبيل المثال التقيد بآداب المرور وقيادة السيارات لا أعرف أن لها منهجاً في المدارس. مشاهدة البرامج التلفزيونية ليس هناك ما يتعلق بها في المدار وليس من الضرورة أن يكون لها ولكن لا يعني أن المعلم ليس بإمكانه أن ينبه إليها بطريقة غير منفرة. لا ينفع القول بأن الدش حرام وربما غالَى البعض وقال بأن التلفزيون حرام. الدش والتلفزيون وسيلة فيها الغث والسمين وهما اداتان شأنهما في ذلك شأن كل أداة يمكن أن تستخدم بطريقة الحلال أو الحرام. السيارة وسيلة يمكن أن ترتكب فيها محرم ولكنها وسيلة للنقل. السكين وسيلة يمكن أن تقطع بها بصلاً وتذبح بها ذبحية وممكن أن تقتل بها إنساناً. التلفزيون والدش وسائل يمكن أن تشاهد فيها برامج جيدة ومتميزة ويمكن أن تشاهد من خلالها براج إباحية وأفلام عنف وغيرها. الدافع الآخر لتكوين علاقة غير مشروعة في بعض الدول الإسلامية هو الوضع الاقتصادي وعدم القدرة على جمع المهر والإيفاء بمتطلبات الزواج. بطبيعة الحال هذا ليس مبرراً بأي حال من الأحوال ولكن في نهاية الأمر إذا لم يوجد حل لهذه المشكلة فلا بد أن نتوقع مثل هذا السلوك.
أصبح الشباب يكثرون من السفر ويقعون في المحظورات بل المحرمات المتعددة والكل يدرك ذلك من المجتمع. قد يقول قائل إن السبب في عدم الزواج ليس سبباً مالياً لأنهم يسافرون ولكن جزءاً يعود لسبب مالي لأن البعض يوفر قيمة تذكرة وإقامة يومين أو ثلاثة أو أسبوع ويذهب لأقرب مكان بهدف السياحة. إن هذا الجانب بحاجة إلى دراسة من علماء الاجتماع والدين والبحث العميق لإيجاد الحلول التي تيسر الزواج وتجنب الشباب كثرة الأسفار كما تجنب الوطن من الوقوع في مأزق صحي لما يترتب على مثل هذه الأسفار من شرور. إن الأسرة تعتبر نواة المجتمع وبالتالي فهي نواة الأمن الاجتماعي، ولاشك أن هذه النواة تعرضت لمشاكل خلال العقدين الماضيين.. المال والبنون زينة الحياة الدنيا.. ولكن البعض وربما لا يكون البعض هنا قليل استهواه جمع المال فنسي أسرته وكثرت مشاغله وكثر ترحاله داخلياً وخارجياً. المرأة تعمل وحلت الشغالة محلها في العناية بالأبناء والسائق موجود وحل محل الأب في قضاء الحاجيات وتوصيل الأبناء والبنات. وأصبح اللقاء روتينياً بين أفراد الأسرة. الكثير من الأمهات أصبحن لا يسيطرن على الأبناء الذين يخرجون متى يشاؤون ويعودون متى يشاؤون ومن هنا أصبح الوضع خارجاً عن سيطرة الأبوين. وهناك جانب آخر يتعلق بالخلل في الأمن الاجتماعي ألا وهو نظام العمل وأوقات العمل في المملكة العربية السعودية. إن وقت بدء العمل في المملكة يختلف عن بقية معظم دول العالم. إن أغلب دول العالم تبدأ العمل من الساعة التاسعة وحتى الرابعة أو الخامسة. لماذا لا يتم التفكير في هذا الجانب وتغيير وقت الدوام الرسمي ليتماشى مع ما هو موجود في معظم دول العالم. يجب عدم أخذ جانب المناخ في الاعتبار لأن دول العالم متشابهة في قسوة المناخ سواء في جانب البرودة أو الحرارة، لا بد من التكيف، وجانب آخر مرتبط بالوقت وهو وقت المحلات التجارية، من المفترض أن تغلق المحلات التجارية في وقت أقصاه صلاة العشاء. إن هذا يعني للوطن أشياء كثيرة: يعني وفرة اقتصادية حيث سيقل استخدام الطرق بشكل كبير ويعني التقليل من استخدام الإضاءة في المحلات التجارية بشكل كبير. ويعني النوم مبكرا. ويعني سيطرة أمنية ويعني جوانب عديدة مفيدة. يمكن أن يستثنى من ذلك المطاعم وبعض المحلات الغذائية وما في حكمها حيث يمكن تمديدها إلى الساعة الحادية عشرة. إن هذا يعني استقراراً أسرياً أكثر، ستتواجد الأسرة في أوقات محددة وثابتة، ستقل التحركات. أعتقد أننا بحاجة في مجتمعنا إلى التفكر والتدبر في أهمية الأمن الاجتماعي.
|