بعد قليل من التردد تناهي إلى سمعي أصوات تأتي من الخارج، لا أعرف بالضبط من أي الجهات تتحاذف كأنما أصبح المنزل يخوض في الزعيق ، سمعت صوت نصف الملتحي يقول بغضب ظاهر: بئر من الأبيار البعيدة ، الصحراء سوف تنفد رمالها والهواء سوف يتدارك الأرض ، فسمعت صوت طرطوشة تقول : انه جبان لا يمكن أن أبقى تحت وصايته ، فقال صوت ثالث : لماذا تحبسينه لماذا تصعدين به إلى حله البازمي وتلغين من حياته الأبواب ، إنهم يتحدثون عن أشياء مختلفة في نفس الوقت أو أن هناك أصواتاً أخرى لا أسمعها ، ولكني عرفت أني في نفس البيت الذي دخل فيه ذلك الصبي وخرج منه بعد أن غادر العالم الذي نعرفه.
تم تحييد مشاعري فلم أفكر في النجاة كأن الحياة يجب أن تكون هكذا ، فراغات لا نهاية لها ، كل شيء على وشك الزوال ، هل الجن بلا ممتلكات بلا مقتنيات يعيشون على مستوى الأشباح التي تزدحم بها خيالاتنا ، تذكرت عندما جاءوا لي بغضارة الماء إنها كانت ثقيلة عليهم تنوء بكاهل ثمانية كائنات ، حضورهم بالصوت والبصر فقط ، ليس لهم ثقل يحملونه معهم ، في إحدى المرات طاردنا قطة من مكان إلى مكان ورغم كثرتنا وعزمنا على إيذائها لم يستطع أحد أن يصيبها بحجر ، أثناء هروبها سارت على كومة رمل وقد لاحظ أحد الصبية أن القطة لم تترك أثرا لخطوتها على الرمل فعرفنا أننا كنا نطارد جنية ، أتذكر انها لم تكن كتلة تملأ فراغا ، إنما كانت فراغا شق في فضاء المكان في صورة قطة ، لأن الحجر كان يمر في داخلها دون أن تحس به ، هذا يؤكد أن الجن لا حضور لهم ، لا يصطدمون بنا أبدا أثناء مخالطتهم ، عكسنا تماما لا يمثلون شيئا في هذا الوجود فيضطرون الى أن يمزقوا الوجود لتظهر لهم صورة أمامنا ، نسحقهم بسحق الفراغات التي يشكلونها .
لم أحس بعودتها مرة أخرى إلا بعد أن سمعت أنين باب إحدى الحجر ، التفت ، لم أشاهد شيئا ، لكن الباب انفتح قليلا وهبت منه نسمة هواء خفيفة ، بعد قليل سمعت صوت وقع أقدام يأتي من نفس الغرفة ، توسع شق الباب فسقط منه ضوء يكاد لا يبين ثم عاد فأغلق بالكامل ، واختفى الضوء مرة أخرى ، كنت واقفا في بطن البيت أنظر إلى السماء الخالية ، انتظرت أن يقترب مني شيء يتحدث معي يلمسني ، كل دقيقة تمر أحس بالوحدة تتكاثر وشيء من الحزن يلف مشاعري لم أكن خائفاً أبدا ، كنت فقط أشعر بملل الانتظار ، أريد أي شيء يحرك السكون يكسر العزلة يضعني أمام مصيري ، بعد ثوان سمعت صوتها يأتي من الخلف : عبد الله ، التفت ولم أرها ولكني عرفت انها في الحجرة التي كانت تجلس فيها قبل قليل في صورة بائعة البيض ، فاستدرت وسرت نحو الغرفة ، دفعت الباب ودخلت ، شاهدتها مرة أخرى ، تجلس في نفس المكان رفعت رأسها عندما شاهدت ترددي وقالت : تعال اقترب مني ، خطوت نحوها ثم جلست بجانبها تماما وقبل أن أضع يدي على يدها البيضاء المليئة بالغوايش تحولت على الفور إلى قطة رمادية ، ثم زعقت قبل أن تركض إلى خارج الغرفة وتتركني وحدي كأنها خائقة مني ، راودني الشعور انها تلعب دور العروسة ، لحقت بها ، شاهدتها هذه المرة تجلس في احد المصابيح بجانب أوجار مهجور بنفس صورة بائعة البيض ويدها المليئة بالغوايش ، هي الأكثر حضورا من كل شيء فيها ، اقتربت وجلست إلى جوارها ولكني هذه المرة لم أحاول أن ألمسها خفت أن تهرب مني ، لا أريد أن امضي في هذه اللعبة أكثر مما يجب ، أني أراها امرأة وليست جنية إنها نفس المرأة التي شاهدتها في مقيبرة ولا يهمني ما سوف يحدث طالما أني أجلس بجانبها ، لقد اخترت صورتها من بين صور النساء اللاتي شاهدتها ، صارت هي الكائن الذي سوف أشتاق إليه طوال عمري بكل تشكلاتها الإنسية ، فقررت أن اتخذ قرارا ينهي هذه اللعبة .
البقية السبت القادم
فاكس 4702164 Yara4u@hotmail ،com |