(1)
** يبدأُ الكاتبُ خطواته ظاناً أنها تطولُ حتى لا تقف.. أو ربما تتوقف فلا تطول.. فهو فيها عابرٌ قد يستقر.. ومقيمٌ قد يمر..!
** هكذا هو «القلم».. تحسبهُ صديق عمر فإذا هو رفيق درب.. تجتمعان فلا تفترقان.. ثم تفترقان فلا تكادان تلتقيان..!
** يفكِّر «الكاتب« كيف يقول.. ويفكر -قبل ذلك - متى يصمت.. ويعرف أنه مسيّرٌ/ مخيّر.. مُقبلٌ/ مدبر.. متدفق/مترفق..!
** هكذا هو كاتبُ الهمّ حين لا تعُوزه شهوةُ شهرة.. أو ذل ارتزاق.. أو عبادة عادة.. أما إذا سيطرت فإنه أجيرٌ أو أسير لا تعنيه حكايةُ هذا المقال «الاستيقافي» لا «التوقفي»..!
(2)
** ربما لا يعرفُ أستاذُنا وصديقنا (حمد القاضي) أنه قد أشرفَ على إحدى خطواتِ صاحبكم الأولى المتعثِّرة.. فقد أعدّ- ذات محاولة- مقالاً «تجميعياً« بسيطاً ضمنه نقولات من بعض كتب التراث لينشر في مجلة المركز الصيفي بعنيزة (التي كانت تطبع على الاستنسل) واختار عنواناً لها لتعود إليه بخط (أبي بدر) بعنوان جديد (من خمائل الإسلام)..!
** لم يدر صاحبكم ما صفةُ «القاضي« الذي حكم بما رآهُ أجمل.. ولم يستطع حينها مقابلته بله محاورته.. فلعله جاء زائراً وعرض عليه مسؤولو المركز نتاج الطلاب وبدّل للأفضل اتكاءً على خبرة ودربة وممارسة..!
** سعد بالملاحظة غير العابرة.. وظلتْ في مسافة الذاكرة.. مشيرةً إلى تواضع البدايات.. وأهميتها في تعزيز أو تحجيم الانطلاقات.. إذْ تأمل التعديل.. ومارس التحليل والتعليل.. ثم لازمَ قلمُه الصّمت مُتفرِّغاً للتحصيل.. حتى نقلته «الصدفةُ« لدنيا «الورّاقين«.. فاستمرأ المقام ولم يستبعد الرحيل..!
(3)
** يمرُّ بنا مَنْ لم يُغادروا خطواتِهم الأولى فلا نلمحُ اختلافاً في أساليبهم، أو تطوراً في مفاهيمهم، أو اتكاءً على إرثٍ معرفيّ ينقذهم من إملال دروس «التعبير»..!
** ويمرّ بنا مَنْ لا يُهمه إن انتقل من الضد إلى الضد فتناقض في رؤاه.. واضطرب في أحكامه فمدح ما قدح وقدح بما مدح، وتمايل مع الريح.. وجرفه التيّار فلا نستطيع له تعبيراً أو تفسيراً..!
** ويمرُّ بنا مَنْ توقف ذهنُه في مرحلةٍ معّينةٍ فباتت محاكماتُه معلّبة في «محفوظات».. تتكرر ولا تتغيّر.. وهو نقيضُ سالفِه.. فله أجرُ الثبات ودونه إدراك التحوُّلات..!
** ويمرُّ بنا مَنْ تحسّ من حروفه طعمَ الانتفاعِ.. فيعزف على وتر المصلحة المادية أو المعنوية، ويبحث عن جمهورٍ يصفق، ومتنفذٍ يُصدّق، وحاجات تقضى، وربما لبس عباءةٌ تُواري سوأته فقرأنا ظاهره وغاب عنا مُضمره..!
** ونظلّ مع «هؤلاءِ».. فلا نُزكِّي مَنْ بَرِئوُا.. ولا نعاتب من بُلُوا، ومن جاء منا بلا خطيئة فليرمهم بحجر.. لنقف معاً في «جرش» و«أبي الطيب»:
لا افتخارٌ إلا لمنْ لا يُضامُ
مدركٍ أو محاربٍ لا ينامُ
واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جانيهِ
غذاءٌ تضوى به الأجسامُ
ضقت ذرعاً بأن أضيق به ذرعاً
زماني واستكرمتني الكرامُ
ذلّ من يغبط الذليلَ يعيشٍ
ربَ عيش أخفّ منه الحِمامُ
(4)
** توعكت (فرانسواز ساغان)- وهي في زيارة للمكسيك- فبعث إليها الرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) بطائرته الخاصة..!
** وعاش المفكر العربي عباس محمود العقّاد- رحمه الله- كفافاً ولم يرتزقْ.. ولم يعنِه أن مثلَه في غير عالمِه يُكفى مؤونة السعي.. ويُمنحْ مقابل الوعي.. وإذا كان هذا حال العملاق العقاد.. فلا تسلْ عن «مئات« سواه عاشوا الشظف.. ولم يعرفوا معنى الترف..!
** ومات الروائي (الطاهر جعّوط)- كما تذكر أحلام مستغانمي- برصاص شاب يبيعُ الخضار، لم يسبق له أن قرأه أو أدرك قيمته، أو تأمل في شعاره:
* (ستموت إن كتبت، وستموت إن لم تكتب، فاكتب ومت)
** وثمة نماذجُ أكثر بؤساً يعيشون الفقر، ويتعايشون مع الزّجر والنهر والقهر.. فيبدو من أدركته الحرفةُ حتى لم يُجِدّ سواها أشد فاقة.. وأضألَ قامةٌ..!
(5)
** تتداعى معطياتُ هذه الملامح مستحضرةً معادلة الحضور والغياب في الوسط الثقافي لتقدِّم صورةً مقلوبة «أحياناً« لما يفترض أن يكون عليه الواقع.. فحقُّ بعض الحاضرين الغياب، وحقُّ بعض الغائبين الحضور، والمتابع مرتهنٌ لما يرى.. وليس ملزماً بالبحث عن مفكر لاذ بالصمت، كما لا يستطيع نفي مهرِّج أو محرِّج ملأ الفضاء بالصوت..!
** وتكتملُ مفردات المعادلة بضعف الذاكرةِ «الجمعية«.. فنحن نعرف من نرى.. ولا نرى من لا نعرف، ولا يعنينا اختفاءُ قلمٍ كما لا نتساءلُ عن وجوده، بل إن فينا من ينكر لمسات الوفاء الضئيلة التي تُحاول التذكير ببعض الرموز المشرقة.. فمن هم.. ؟ ولماذا هُم.. ؟ وماذا تريدون مِنْ بعثهم من مرقدهم..؟
** اسألوا الجيل الذي وُلد على رأس هذا القرن الهجري (أي قبل خمسة وعشرين عاماً) إن كانوا قد سمعوا بأسماءٍ كبيرة كانت ملء السمع والبصر في أيامنا وأيام آبائنا.. وخذوا- للتدليل فقط- أمثال: عبدالله عبدالجبار وأمل دنقل وجمال حمدان ومحمد حسين زيدان وأحمد عبد الغفور عطار وضياء الدين رجب ومحمد حسن عواد.. وغيرهم من السابقين الذين قضوا.. أو لا يزالون ينتظرون..!
(6)
** «.. ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشقّ على أن أدعها لقومٍ يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها..».
** هكذا برّر (أبو حيان الوحيدي) موقفه من أحرق كتبه (قبل أكثر من ألف عام) مكرراً تجربة (أبي عمرو بن العلاء) الذي دفن كتبه.. و(داود الطائي) الذي ألقاها في النهر.. و(يوسف بن أسباط) الذي رماها في مغارة وأقفل بابها.. و(الداراني) الذي ألقاها في فرن.. و(سفيان الثوري) الذي مزقّها وطيرّها في الهواء.. وكذا (أبو سعيد السيرافي) الذي أوصى ابنه بإتلاف كتبه..!
** بأيديهم لا بيد عمرو.. فقد مارس (عمرو) دور «التحكم« طيلة قرون وأخفى ما رآه في نظره ضاراً.. ومرّر ما حسبه مناراً، ووصل الأمر ببعضهم أن ربطوا كتاب (الفصوص.. لابن عربي) بذيل كلب.. وحاكموا سواها فأتلفوها..!
** وإذن فهما «رقابتان» أو «رقيبان» يتجاوران ويتجاوزان.. ليبقى الرقيبُ الأهمُّ رقيبَ الذات اليقظة التي تعرفُ متى تأذن بالكلام.. ومتى تأمر بالسكوت.. ليظلّ «المدادُ» بين امتداد وارتداد..!
(7)
** أما بعد..
فهي اعتذارية.. بين يدي كلماتٍ تنكمش في الصيف حتى تتبخرّ.. وقد تستعيدها فسحةُ هدوءٍ.. تأذن بتأملٍ.. وقراءةٍ.. ومراجعةٍ.. فإذا امتد الأجلُ واتصل الأملُ عادتْ لركضِ «المحو« وتثاقلِ «الخطو«..!
** الكتابةُ ليست نزهةٌ في منتجعٍ فوق قمم «الألب».. أو على ضفاف بحيرة «لوزان».. لكنها مسؤوليةٌ أمام الله أولاً وتالياً.. وستحاسب كلُّ نفسٍ بما كسبت.. وكل يدٍ بما كتبت..!
*«الدنيا ساعة«..!