الأستاذ حسن القرشي - رحمه الله - بخلاف الأكثرين من شعراء الحجاز ونجد، والمناطق الأخرى كان أحد الرواد في التجديد الشعري.. دون اندفاع ولا طلسمة.. كما هو طابع شعر بعض الشباب خلال العقود الثلاثة الماضية.. وأعني بهم العاجزين عن التواصل مع المتلقي لضعفهم.!
* * *
غالب شعر القرشي على النمط العمودي.. لكنه بدأ يكتب شعر التفعيلة مبكراً - نسبة الى غيره من شعراء المملكة - وليس لدي الآن كل دواوينه حتى أحدد البداية لميله إلى شعر التفعيلة.. لكني أجد في بعض دواوينه التي لدي.. ما يدل على أنه كتب شعر التفعيلة قبل النكسة العربية أو حرب الأيام الستة 1967م. ففي ديوانه (النغم الأزرق) المطبوع عام 1966م عدة قصائد من هذا النمط التجديدي، أما ديوان (زحام الأشواق) والمطبوع عام 1972م فأغلب قصائده قامت على التفعيلة وتنويع القافية.
ووجدت له في كتيب (الأمسية الشعرية) التي أقيمت بمناسبة (الحفل الثاني لجائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 1404 - 1984م) والتي اشترك فيها خمسة شعراء (هو ومحمد هاشم رشيد - رحمهما الله - وكاتب هذه السطور وأحمد الصالح, وعبدالله الصيخان..) وجدت في الكتيب المذكور قصيدتين فيهما نزعة حداثية تتجاوز ما كتب قبل ذلك من قصائد التفعيلة.. إحداها بعنوان (بيروت في قبضة الظلال) - كذا - بالظاء - جاء فيها قوله:
(أنكرتُك أمس؛ أنا أنكرتك يابيروت
أنكرت عروس الفجر عجوزاً في التابوت
سقطت أزهار الأشجار وأشواك الصبار
وذابت أوراقك يا (توت)
وبدت عوراتك ما أقبح أن تبدو العورات
ما أقبح أن يجري الدم مجاناً في كل الساحات) ص11
وفي قصيدته (عندما تتقصف الخيام!) نقرأ المقطع التالي:
(بواديك أقطع كل الفيافي
وأمشي على درب كل الصواعق كل الرعود
خبرت المنافي
كم احتضنتني البراكين
كم جربتني العواصف
كم هددت قدمي القيود
(حجازية الدمع)
ياريح أشرعتي أنتِ
يا فجوة للزلازل ترتطم الروح فيها
وتجري نثارات حب عنيد
ص 13 المرجع السابق
لفتت نظري هنا عبارة (حجازية الدمع) والذي نعرفه جميعا أن دموع الحجازيات كدموع نساء البشر..!
وكنا ولا زلنا نعرف بيت امرئ القيس في عشيقته:
(حجازية (العينين) نجدية (الحشا)
عراقية (الأطراف) رومية (الكفل) |
رجل العلاقات.. وأكْلَةُ (الباجة)!
لقد كان الأستاذ حسن القرشي رجل علاقات من الطراز الأول.. لعل عمله في السلك الدبلوماسي فترة من الزمن ساعده على ذلك ومكّنه من اكتساب أصدقاء كثيرين داخل المملكة وخارجها، وبخاصة منهم الشعراء والأدباء الذين وثق بهم صلته.. فجعله حاضراً في كثير من المؤتمرات الأدبية والمهرجانات الشعرية.
* * *
القرشي لا ينافسه على سعة الانتشار في العالم العربي سوى غازي القصيبي. ولكل منهما نكهته وخصوصيته الشعرية والإلقائية.. فالقرشي ليس جيداً في إلقاء شعره.. وقد حضرت عدداً من المهرجانات الشعرية الأدبية التي ألقى فيها القرشي شعراً، فكان إلقاؤه أقل من مستوى شعره، والإلقاء موهبة.. كما الشعر موهبة (وما أبرئ نفسي)..!!
تزاملنا - القرشي وأنا - في عدد من مهرجانات الشعر التي دعينا إليها من بعض الدول العربية كمصر.. بمناسبة معرض الكتاب الدولي.. وكالعراق.. في مهرجانات (المربد).. السنوية.
وما بقي في الذاكرة عن هذه الرحلات وهوامشها.. هو أقل القليل.. ولكني مازلت أذكر أن الأستاذ القرشي دعاني ذات ليلة من ليالي (المربد) التاسع 6-4-1409هـ لأن نتعشى معاً.. أكلة شعبية اسمها في العراق (الباجة).. وما كنت أعرف معنى هذه الكلمة التي يبدو أنها (تركية) الأصل.. لبيت الدعوة وجلسنا في ذلك المطعم الذي هو بحجم دكان متوسط.. سألني: هل تعرف الباجة؟ قلت زدني علما..؟
وما هي إلا لحظات حتى وضع النادل (قُعْبَيْجِه) لكل واحد منا.. نحن الاثنين.. أحدهما مليء بالكوارع وآذان الخرفان وجلدة رؤوسها...! والقُعْبُ الثاني مليء بمرقة هذه الخلطة.. الجامعة بين الأعلى والأسفل.
قلت له هل هذه هي الباجة.. أم شيء آخر سيأتي؟ قال هذه الباجة.. قلت هذه الأكلة موجودة في المملكة منذ سنوات، قال نعم، ولكن العراقيين يصنعونها صناعة متميزة، أليست أكلة لذيذة وجميلة؟ قلت لذيذة نعم.. ولكنها بضاعتنا ردت إلينا.. أما انها (جميلة) كما تقول فأحيلك إلى البيت المشهور
(تزوجتها شمطاء شاب وليدها
وللناس فيما يعشقون مذاهب)!
ضحكنا في تلك الليلة (الباججية)، وأردت رد المعروف إليه فدعوته في الليلة التالية إلى وجبة مماثلة ولكن في مطعم آخر.
والحقيقة أنه لا مزية تمتاز بها مطاعم بغداد عن مطاعمنا. بل العكس هو الصحيح.. إلا أن ألذ ما يعقب العشاء وفي بغداد هو (الشاهي) العراقي الذي يجيدون صنعه أيما إجادة.
رحم الله شاعرنا حسن القرشي الذي شنف أسماع العرب على مدى يزيد عن نصف قرن بجميل الشعر ورقيقه عندما يتغنى بالحب والجمال، ويلهب مشاعره القومية والوطنية عندما يحتدم الصراع بين (حق) العرب والمسلمين و(باطل) اليهود والصليبيين.
|