وإذا كانت الأمة قد تأذت من البغاة المفسدين في الأرض، فإنها متأذية- ولا شك- من حملة الأقلام الذين يتخذون المضلِّين عضداً، وأكثر تأذياً من المتنطعين الهالكين المميتين للدين، وانحراف الفكر أخطر من انحراف الفعل، ذلك أن فلول الإرهاب تموت بموتهم ضغائنهم وأفعالهم المستنكرة، أما أصحاب الفكر المنحرف فزهاق أنفسهم لا يمتد إلى ما خلفوه من آراء وتصورات ومواقف، و (الكلمة) و (الرصاصة) تنطلقان: هذه من فوهات البنادق، وتلك من أفواه الأناسي، فإن أصابت الرصاصة هدفها آذت، وإلا ضاعت في التراب، أما الكلمة فهي باقية ما بقي الكتاب.
وما من إرهاب مسلح، إلا وله حواضنه ومنطلقاته: الدينية الغالية، أو العلمانية المتطرفة، أو الفكرية المنحرفة، أو الثورية الطائشة، أو اللعب الماكرة.
وحسبك داءً ما ترى الأمة عليه في الراهن، وفيما هو آت من فتن تموج كموج البحر، مما يهدد أمنها ووحدتها: الوطنية والفكرية. وكيف لا يخيف الواقع و(الفتيا) وهي آلية دينية ضرورية كادت تكون مصدر التضليل والتأزيم، وحلقات الدرس ومجالس الذكر خيف من عقابيلها، وكما ارتاب الناصحون من التجمعات التي لا يرقبها راسخ في العلم، وقاف عند الحدود، مدرك للمقاصد، يفقه الواقع، ويختار أيسر الأمرين. وحتى كاد يقع في مشاهد الفكر ما وقع فيه اليونانيون مع آلهتهم، يقدسونها في طقوسهم، ويسخرون منها في تمثيلهم، وذلك ما وقع فيه مردة الروائيين الذين وتَّروا أعصاب الغيورين. وما من متعالم حدث إلا يعد نفسه ابن بجدة: الدين والفكر والسياسة. ولم يعد غريباً أن نرى قارئاً يتهجى أبجديات المعارف، تستزله الدهماء بالمكاء والتصدية، بحيث لا يجد حرجاً من القول في القضايا المصيرية بما لم يأذن به الله. وإذا قيل لهم: - ليس هذا العش عشكم فأدرجوا، لاذوا بدعوى التعبير وحق المشاركة. وما عرفنا في تاريخنا الفكري والسياسي أن الناس سواسية إلا في الحقوق والواجبات. أما في المسؤوليات فإن لكل مجالٍ رجاله، وأما في التخصصات فإن لكل علم أهله، وآيات نفور الطوائف وسؤال أهل الذكر، والنهي عن قفو ما ليس للإنسان به علم ضوابط ومعالم، نسيها الناس فنسيهم السداد والتوفيق.
وأخطر ما تواجهه الأمة الفهم السقيم ل (الحرية) و (التسامح) و (الاجتهاد) و (الوسطية)، و (سد الذرائع) و (درء المفاسد)، ولقد أشرنا لهذه النقائص أكثر من مرة، لكونها مصدر كل انحراف. فكل متقول أو متأول أو متفسخ يحيل إلى حقه في حرية القول والفعل والاجتهاد وفُسح التسامح. ولو سألته عن: حدود الحرية، وشرط الاجتهاد، ومفهوم الوسطية، لم يحر جواباً. وأكاد أصاب بالغثيان حين تجمعني الظروف السيئة بطائفة من المتصدرين للقول في الشأن الديني والفكري والسياسي، ثم أنزلق من حيث لا أريد بمجادلتهم حول بعض القضايا المتعلقة بحرية التعبير، وحق القول في الشأن السياسي أو الديني. وكيف يتصور الإنسان نفسه تصوراً صائباً، وهو يتقحم كل جدل، ويقول في كل قضية، ويحكِّم نفسه في كل مسألة، يكون فقيهاً وعالماً وسياسياً ومفكراً في آن، وكأن الله قد جمع فيه كل شيء، حتى صار من آياته الكبرى.
ومما يؤذي المتأنين والمتثبتين أحداث مبتدئون، يبتسرون الأحداث من سياقاتها، ثم يلوون ألسنتهم بالقول فيها بمعزل عن ظروفها. أو ينظرون إلى الحدث الإقليمي الآني المعروف بكل ملابساته نظرة تعميمية، لا تشفي نفساً، ولا تبرىء سقماً، وقد يجنحون من التحديد إلى التمييع، ومن الحكم الناجز إلى الوعظية المترددة، مستبعدين احتمالات اللعب السياسية، والغزو والتآمر، مؤكدين على إدانة الذات، وتزكية الآخر، والثناء عليه، والتصديق بدعوى تحرير الشعوب، وجلب الديمقراطية، وإصلاح البيت العربي. ومعولهم في كل ذلك فيوض الإعلام، والمتداول من الدعاوى الزائفة. وما يدري أولئك أن ما يقال في العلن، يختلف عما يدور في (اللوبيات) وما يدار وراء (الكواليس). وما علموا أن ما تنطوي عليه الوثائق السرية نقيض ما تفضي به اللقاءات والمؤتمرات. وكل فعل متقنع بزيف الادعاء تمتد عروقه إلى طينة اخبال، طينة السياسة. وتاريخ الاستعمار الحديث لم يدع رذيلة إلا كان له منها أوفى نصيب، ومهما تعددت المسميات فإن الاستعمار واحد، وما الدول الكبرى في تبادل الأدوار إلا كمثل المصارعة الثلاثية أو الرباعية، يجول اللاعب حتى تنهكه اللكمات، فيلامس كف صاحبه، ليقفز إلى الحلبة مسدداً الضربات إلى الضعفاء والمساكين من أبناء العالم الثالث. وكم تجرع عالمنا المنهك بفعل أبنائه مرارات الاستعمار التقليدي الغابر، وها هو اليوم يسفُّ المل من جولة جديدة، ومن يدري فقد تتلقف (الصين) الراية من بعد، فقضاء العالم العربي أن يظل مسلوقاً بألسنة ابنائه الحداد، مثخناً بتداعي آلية المستعمر عليه بحيث أصبح إنسانه هدفاً وأرضه ميداناً ومقدراته فيئاً، فكأنه طريدة لذاته ولغيره. وليس التناوش بالكلمات أقلَّ خطراً من التناوش بالسلاح، والمتداول في مشاهد الإعلام وميض نار قد يكون لها ضرام.
ومصائب الأمة تتداعى عليها، كما القصعة والأكلة، وأغيلمتها كما (براقش) التي تجني على أهلها. وليست مصائب الأمة قصراً على المتعلمنين والمتحدثنين و (المتردكلين) وإنما هي من هؤلاء، ومن كل متطرف موغل في انتمائه بغير رفيق، متعصب لمذهبه دون موارية متعنصر لعرقه دون تواضع. والمتقصي لتاريخ الملل والنحل وسير أعلام النبلاء عبر التاريخ الحضاري للإنسانية كافة يقف على محطات بلغت فيها الحدة والحدية أقصى حالات التوتر.وما من متابع حصيف ينكر أن طائفة من (الإسلامويين) يستمرئون الحجر على التفكير، ويتعشقون التضييق على الخلق، بدعوى (السَّدِّ) و (الدرء)و (التورع). وإذا كنا نتأذى ممن يحيلون إلى النص الإسلامي المبتسر أو المؤول على غير مراد المشرِّع فإننا لا نقبل ردور الفعل التي تذر الإسلام كالمعلقة باسم الحرية والتسامح، او تأخذه بجريرة المسلم الذي لم يفهمه على مراد الله. وما نسمعه من امتعاض واتهام للإسلام ومنظماته ومؤسساته ينذر بخطر يتربص بالأمة، فاستدعاء الإسلاميين ومناهجهم ومنظماتهم وروابطهم وجمعياتهم عند كل خطأ أو خطيئة انتهاز دنيء للفرص، ومسايرة غبية للمتماكرين، ومزايدة رخيصة. والمنصف من يحاسب كل الأطراف: إسلامية كانت أو غير إسلامية، فكرية أو سياسية، اجتماعية أو أدبية (مؤدلجة)، ومن لا تأخذه بالحق لومة لائم. فالأمة مطعونة بمدى أبنائها: المتأسلمين والمتعلمنين والمتحدثنين، وبمدى أعدائها المتغطرسين على حد سواء. ولا يقيل عثرها إلا العقلاء المنصفون الواثقون بنصر الله، الذين يملكون الشجاعة والإرادة لقول ما لهم وما عليهم، ولا يخافون من النقد الذاتي ولا من محاسبة النفس.
وكل معجب برأيه، متخذ إلهه هواه، قاطع بصحة ما يقول وخطأ ما يقوله غيره، لا يزيد الوضع إلا سوءاً وتعقيداً، وهذا ما نراه ونسمعه ممن ينهون عن السوء ويقترفونه، ويدعون إلى الحوار الحضاري ثم لا يحسنونه. وحاجة الأمة إلى علماء متبحرين، ومفكرين متمرسين، وساسة معتدلين، يحقون الحق بالرفق واللين، ويجادلون، أو يدفعون بالتي هي أحسن، ينشدون الحق، ولا تعنيهم الغلبة. ومن أراد الانتصار على غيره، وأخذته العزة بالإثم، فحسبه مزبلة التاريخ. وما أكثر المحتدمين والحديين الذين يعدُّون أنفسهم كما الرعاة الذين لا يتحرجون من أن يهشوا بعصيهم الخاصة والعامة، وكأنهم أوباش لا تكفيهم الإشارة، بل لا بد من أن يضربوا بالعصاء. ومع إسرافهم في جلد الذات يرمون الآخرين بدائهم، ومن المقت الكبير أن تنقم من غيرك ما تفعل، تدعو إلى الحرية ولا تمنحها، وتطالب بأدبيات الحوار ولا تتحلى بها، وتخطىء المُقْصين والمهمشين، ثم لا تجد حرجاً في إقصاء المخالف وتهميشه.
وطالب الحق يفتح أبوابه ونوافذه، يحترم التعددية واختلاف التنوع، ويقول لكل صاحب قضية يتفق معه في الحضارة والمرجعية: - هلم إلى المحجة البيضاء، نرد إليها، ثم لا تكون لنا الخيرة بعد قضائها. ويقول لكل صاحب قضية يختلف معه في الحضارة والمرجعية، ثم لا يؤدي الاختلاف إلى قتال ولا إلى إخراج من ديار ولا إلى مظاهرة: - لكم دينكم ولي دين. وإذ لم يفرط الله في الكتاب من شيء، فقد وضع معالم في الطريق إليه. فعند الاختلاف في قضايا الفكر والدين أوجب الرد إليه وإلى رسوله، وقال وقوله الحق: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ولم يقل: كما ترى أو كما تهوى. وفيما يتعلق بأمور الدنيا جعل الرد إلى الأدرى بأمورها، وفق المقاصد الإسلامية. ومتى انبهمت الأمور جاء التوجيه الرباني: - {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. ولا يستقيم أمر الفكر والدين والسياسة إلا بالاتفاق على المنهج والآلة والمرجعية. وحوار الطرشان الذي نعيشه في كافة المشاهد مردُّه إلى الدخول في حلبة الصراع بعواطف جياشة، وبضاعة مزجاة، وادعاء عريض، وتعالق متناقض، واعتماد على الجاهزيات. والمتقصي للمتصدرين ممن عَدَت عيونهم للأضواء، لا يراهم إلا نقلة لا يحسنون الانتقاء، ولجوجين لا يحسنون إلا الضوضاء. وإذا توفر القوي الأمين على فضلة من الجهد والوقت والرغبة وفكك مقولاتهم، وجدها عبارات مبتسرة من مقروء آني. ف (الأحداث) يبيتون ليلهم يقرؤون في كتب الفكر الحديث، حتى إذ أشرقت الشمس بنور ربها، أطلقوا العنان لأقلامهم، لتعيد إلى الناس ما كنوا قد قرؤوه، ولم يفهموه.
فالذين يطالبون بحرية المرأة وعملها وحقها- على سبيل المثال- لا يضعون أي ضابط، ولا يحيلون إلى أية نحلة. ولو قلت لهم: هلموا إلى ضابط الإسلام، لقال قائلهم:- من هنا أتيت المرأة. فكيف نقبل ب (القرار) و (الحجاب) و (القوامة) و (التعدد) و (الإشهاد) و (الإرث) و (نقص العقل والدين) و (الضلع الأعوج) و (الهجر) و (الضرب) و (الرجم) و (المُحرَم) و (الولي).
وإذا تحفظت على تهافتهم على التجربة الغربية، قالوا : - وماذا في التجربة الغربية، لقد تصدروا العالم، واسترهبوهم، وجاؤوا بعلم عظيم، وكأن الكاسية العارية المائلة المميلة هي التي أنجزت العلم والحضارة. لقد غفلوا أو تغافلوا عن امتياز كل حضارة، وعن قدر التفاعل بينهما، وعما يجوز أخذه. ومن سلم للقطيعة كمن سلم للخلطة، وما أردى الأمة في مهاوي الهلكة إلا الإفراط أو التفريط، وإلا الحدية أو الاحتدام. وليست (قضية المرأة) التي اختلف الصحابة حولها، ولما تزل في اتساع وتعقد هي القضية المستباحة، فكل قضايا الأمة مستباحة، يقول فيها الجهلة والمبتدئون، وكل متحدث يحيل إلى الحق والحرية.
وليس بمستغرب أن نصاب بالغثيان من أغيلمة طالت أذيتها سلف الأمة وعلماءها، دون تحديد للمؤاخذة، أو مناقشة علمية لأوجه المخالفة، وما كنا ممتعضين من قراءة التراث، ولا متخوفين من عنصرة الخطاب، ولا رادين عن مراجعة المنجز العلمي. فكل الناس خطاؤون، ورحم الله من تدارك على العلماء أخطاءهم، وحرر الراجح من الأقوال، وتخوفنا ممن يترسمون خطى الكنسيين في الهيمنة أو خطى المصلحين في العلمنة. والمؤسف أن المستفزين للرأي العام يجدون من يستقطبهم من صحف الإثارة وقنوات الضرار والإضرار. والأدهى والأمر أن المحيلين إلى تجربة الغرب يمجدون عدله، ويتغنون بحريته، ويتباهون بتحضره، ويجرمون مقاومته، ويمتعضون من رفض احتلاله، ويسفهون المتحفظين على أهدافه ونواياه، على الرغم من أنهم يتجرعون مرارة ظلمه وعدوانه وإفساده، ومكمن فساد رؤيتهم انهم يخلطون بين مبلغه من العلم التجريبي وما يوفره لذويه من حرية وعدل ومساواة، وما هو عليه من فساد في الأخلاق، وانحراف في الفكر، واحتقار لغير إنسانه، وتعد على حقوق الغير، وظلم وإفساد، والله لا يحب الفساد، وينهي عن التظالم. ولو فصلوا القول، وعرفوا ما له وما عليه، لكان خيراً لهم. وإذا كانوا يدينون التاريخ الفكري الإسلامي أو السياسي بسبب وقوعات وأحداث عارضة، فإننا نقدمهم في ذلك، وما نبرىء تاريخ المسلمين من تجاوزات وإخفاقات لا تحتمل. ولو أنهم قاربوا الصواب وتمثلوا المقاصد، لما آلت أحوال الأمة إلى هذا الوضع، ومن العدل تعقب الحضارة المهيمنة واستقراؤها بما هي عليه من مبادىء منحرفة، وتعد سافر وتسلط جائر، وبغي عنيف. وليس ما يفعله الغرب من الوقوعات الخاطئة، ولكنه من أجل المصالح الجائرة، إن هناك فرقاً يجهله أو يتجاهله البعض بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق). فتاريخ المسلمين مليء بالوقوعات الخاطئة التي لا تتحملها المبادىء الإسلامية، فيما نجد أن المبادىء الغربية تفرز الأخطاء والتجاوزات، وليس أدل على ذلك من التعديات المتعمدة على القيم والمبادىء الإنسانية، وهي تعديات لا تحال إلى أخطاء الممارسة، وإنما هي متطلبات (استراتيجية)، وما عذابات الشعوب الإسلامية إلا شاهد إثبات لمن ألقى السمع وهو شهيد. وإذا أباح البعض لنفسه استدعاء حادث قتل أو جور أو سوء تصرف في التاريخ الإسلامي، وتلك أحداث قد لا نعرف أسبابها وملابساتها- والتاريخ كما نعلم لا يكتبه إلا المنتصر- فلماذا لا يمتعض أولئك من القتل الحي الحاضر المرصود بالصوت والصورة، مما يتعرض له العلماء والقادة الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء. وهل من بشاعة ووحشية وإذلال يعدل حصد الأسر الهاربة من لهيب القصف العشوائي؟ وكم من أسْرة ذاهلة إذا اقتربت من المنافذ أمْطرها المدججون بالسلاح بوابل من الرصاص.
وأي بشاعة ووحشية تعدل ذلك؟ ودعك من تعذيب الأسرى والمساجين، مما اعترف به المقترفون. فأين هؤلاء من هذه الأحداث؟ لقد قتل في شهر واحد ألف عراقي، وجرح أربعة آلاف، وكأن الشهداء المقتولين دون أموالهم وأعراضهم ووطنهم حشرات تساقطوا بفعل المبيدات. فأين الأغيلمة المتمردون على الشقاق من هذه الوحشية؟ وهل استدعاء مأساة الحلاج عند (عبد الصبور) وقتل الجعد عن غيره وليدة صدفة أم هي تشويه للإسلام بالإنابة؟.
ومن حقنا التساؤل عن استمراء النيل من عظماء التاريخ الإسلامي من علماء وقادة ومفكرين استناداً إلى مقولات احتمالية الثبوت، فيما يغض الطرف عن وقوعات حية قطعية الثبوت، يذل فيها أهل الطاعة، ويعز فيها أهل المعصية. إنها حرب القلم، وتلك حرب السلاح. وما هُدّت الحصون والأسوار بالمدافع، وإنما هدمت بأقلام الواقعين تحت طائلة التساؤلات.
|