سأتحدث في هذه العجالة عن عالِمَيْن كبيرين من علماء اللغة والبلاغة العربية القدماء ، وسيكون الحديث عن الحضور الفكري لكل عَلَمٍ من هذين العلمين عند الآخر، والتأمل في ذلك طويلاً مستنيرة بالمقدمة التي خطتها أنامل الشيخ المعاصر محمود شاكر والذي ذكر ان الإمام عبدالقاهر الجرجاني عرّض بالقاضي عبدالجبار في عدة مواضع من كتابه.
فيقول مثلا: انه المقصود بالتعريض بأصحاب اللفظ وبالذين يقولون (بالضم على طريقة مخصوصة) وبالقائلين (إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ) وقول القائل: (إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة)..إلخ.
هذه الأقوال، حتى قال: (ذلك ان عبدالقاهر منذ بدأ في شق طريقه إلى هذا العلم الجديد الذي أسسه كان كل همه ان ينقض كلام القاضي - الفصاحة - وأن يكشف عن فساد أقواله في مسألة اللفظ) فهل هذا الرأي صحيح؟ إنها مسألة تحتاج إلى طول تأمل (وسكون طائر) كما يقول البلاقلاني حتى يؤكد على العلاقة بين الكتابين كتاب القاضي عبدالجبار (المغني) وكتاب عبدالقاهر (دلائل الإعجاز) إن المغني خلا من ذكر الصرفة وهي أشهر أقوال المعتزلة لأنها من اختراع شيخهم القديم النظام لأنه رد مقالة الصرفة ونقضها في كتابه، وان عبدالقاهر أغفلها أيضا، فهل لهذا الأمر سر آخر غير ما رآه الشيخ محمود شاكر وانه لمجرد الاتفاق بين الكتابين؟ هذه أيضا تحتاج لطول تأمل سكون طائر.
والذي ظهر لي من خلال دراسة وبحث هذه القضية انه لم يكن هناك اختلاف في فكر الإمامين القاضي عبدالجبار وعبدالقاهر الجرجاني في النقاط التي اشتركا في الحديث عنها، ولحظت عند الشيخ عبدالقاهر تناقضاً ظاهراً في كلامه حول الذين فهموا المزية بجزالة الألفاظ وحسن المعنى التي أحاول طرحها والتي أرجو أن أكون أحسنت فهم الحقيقة وإن كانت المسألة صعبة وشائكة، واجتهدت في فهم هذه القضية ما وسعني الاجتهاد.
في البداية ليست ثمة تعريض من الشيخ عبدالقاهر لماذا؟ لأني وجدت توافقاً بين ما يعنيه كلا الشيخين من موضع المزية في الكلام، يقول القاضي عبدالجبار ص 197 (قال شيخنا أبو هاشم، إنما يكون الكلام فصيحاً لجزالة لفظه وحسن معناه) إنما أراد بجزالة اللفظ وحسن معناه شيئاً واحداً وهو الصياغة والتصوير وهيئة المعنى وصورته ولم يقصد بالنظم نظم الألفاظ المفردة دون إحداث صنعة في المعنى، كما عرّض الشيخ عبدالقاهر ببعض من تكلم في هذه المسألة ولم يصرّح بأنهم المعتزلة ولم يذكر ولم يحدد أنه القاضي عبدالجبار حين قال - رحمه الله -: (حين قالوا - نطلب المزية - ظنوا موضعها - اللفظ بناء على ان - النظم - نظم ألفاظ وانه يلحقها دون المعاني...).
مما قال أنهم يقصدون اللفظ المفرد والذي ينفي عبدالقاهر ان تكون له المزية في الكلام، والدليل ان القاضي عبدالجبار لم يقصد باللفظ وجزالته اللفظ المفرد وإنما قصد الصياغة والتصوير وتأليف الكلمات ونظمها وفق طريقة مخصوصة تحدّث صورة وهو ما قصده بقوله (حسن معناه).
الدليل على ذلك قوله في موضع آخر (وليس فصاحة بأن يكون له نظم مخصوص لأنه الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشاعر والنظم مختلف إذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة وقد يكون النظم واحداً وتقع المزية في الفصاحة فالمعتبر ما ذكرناه)، فحينما قال: النظم واحد وتقع المزية في الفصحاة يقصد أن الألفاظ المستخدمة في النظم عند كلا المتكلمين واحدة وإنما تقع المزية في الفصاحة وهي جزالة اللفظ وحسن المعنى، فليس المقصود بجزالة اللفظ لفظ دون آخر وإنما يقصد الصياغة والتصوير و(توخي معاني النحو) الذي قصده عبدالقاهر كذلك، ثم ظهر شيئاً من التناقض في كلام الشيخ عبدالقاهر حين قال: (لم يستطيعوا ان ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنوه بحرف بل لم يتكلموا بشيء إلا كان ذلك إبطالا لأن يكون اللفظ من حيث هو لفظ موضع المزية وإلا قد رأيتهم قد اعترفوا من حيث لم يدروا بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه إلا معاني النحو وأحكامه) فعبد القاهر يقول: إنهم ظنوا المزية في اللفظ ثم أثبتوا من حيث لم يدروا أنها في توخي معاني النحو وأحكامه، فكيف يظن الإنسان شيئاً ثم يثبت سواه؟ إن من ظن شيئاً لا بد وان يسعى مدفوعاً برغبته إلى إثبات هذا الشيء وتأكيده، وهذا يدل على ان ظنهم الذي قصدوا إليه منذ البداية هو الذي دللوا عليه وهو الأمر الذي يظهر من كلام القاضي عبدالجبار، ثم لماذا لم يفسر عبدالقاهر كلامهم في الفصاحة ويفهمه كما فهم ووضح غموض المصطلح الذي واجهه من كلام البلاغيين والعارفين بالشعر ونقاد المعاني وانتهى به إلى تحديد مرادهم من هذا المصطلح الغامض ثم هو يقول (إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة) ويقول في موضع آخر (ومما تجدهم يعتمدون عليه ويرجعون إليه قولهم - إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ) فكل هذا الكلام - فيما يظهر - يناقض أنهم جعلوا المزية للفظ المفرد وإنما لتوخي معاني النحو وتشكيل وتصوير المعنى في صورة وهيئة معينة، وقال القاضي عبدالجبار (إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة) ويقول عبدالقاهر عن ذلك (وقولهم - على طريقة مخصوصة) يوجب ذلك أيضاً، وذلك انه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرد اللفظ = معنى).
وهذا الذي قاله عبدالقاهر صرح به القاضي عبدالجبار حين قال: (الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام) فليس ثمة اختلاف بين الشيخين بل هو كلام واحد صادر من شخصين اثنين، فهناك توافق بين كلام الرجلين مما يجعل الباحث يشك في ان الشيخ عبدالقاهر عرّض بالقاضي عبدالجبار لأن القاضي عبدالجبار فهم المعنى الذي تكون له المزية كما فهمه عبدالقاهر تماماً وهو الذي قصده الجاحظ حين قال (المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي..) لأن القاضي عبدالجبار رد على ما أنكر عليه ان تكون المزية في حسن المعنى الذي قصد منه (صورة المعنى) (هيئة المعنى) حيث قال: (قيل له: إن المعاني وإن كان لا بد منها فلا تظهر فيها المزية وإن كان تظهر في الكلام لأجلها ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق) وهذا دليل ناصع وباهر على ان المعنى الذي يسلبه القاضي عبدالجبار المزية هو المطروح في الطريق يعني الأغراض والمقاصد والذي يثبت له المزية صورة المعنى وهيئة المعنى وصنعة الشاعر في شعره وصاحب البيان في بيانه حتى يقول: (على أنا نعلم ان المعاني لا يقع فيها تزايد فإذن يجب ان يكون الذي يعتبر التزايد الألفاظ التي يعبر عنها) فهو هنا يقصد بالمعاني التي لا تتزايد المعاني المطروحة في الطريق الأغراض والمقاصد كما ظهر من كلامه قبل هذا، وقصد بالألفاظ التي تتزايد الصياغة والتصوير وهيئة المهنى وهذا الذي عمل عبدالقاهر في الدلائل على بيانه وإيضاحه، ولا يظهر أن عبدالقاهر يعرّض بالقاضي عبدالجابر بقدر ما يشد على يده، ويوافقه فيما ذهب إليه حين قال: ومما تجدهم يعتمدون ويرجعون إليه قولهم (إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفظ... وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه غير ان تجعل (تزايد الألفاظ) عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان، محال) ص 395.
فأيّ تعريض في كلام عبدالقاهر بالقاضي عبدالجبار؟ إنه مجرد توضيح وتأكيد على كلامه.
وبعد: هذا جزء من القضية التي تحدث عنها بداية المقالة اختصرت الحديث عنها رغبة في عدم الإطالة على القارئ الكريم وللرغبة في الفهم من الجميع، والبحث في هذه القضية أطول من ذلك، وقد يكون فيما ذكر إثارة لذهن القارئ الكريم لمناقشة الموضوع بطريقة أكبر وبعمق فكري أكثر، ولكم جميعاً تحياتي.
* جامعة أم القرى/مكة المكرمة 1655/فاكس: 5583749
ملاحظة: هذه المقالة جزء من بحث للكاتبة.
المصادر:
1 - المغني في أبواب التوحيد والعدل. تأليف: القاضي عبدالجبار، ج16.
2 - دلائل الإعجاز، تأليف: عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق: محمود شاكر.
|