للصديق الدكتور عبد الله العسكر مقال نشر في جريدة الرياض يوم 7-4-1425هـ جعله توطئة لما سوف يتحدث عنه -لاحقاً- الدكتور ديفيد كمنز استاذ للتاريخ العربي المعاصر, ومهتم بتاريخ المملكة وله عدة مقالات عن (الوهابية)..
وقد وصف الدكتور العسكر ذلك المقال الذي لم ينشر حتى الآن بأنه متميز ويحمل عنوان (الوهابية ثقافة دينية محلية)!!
ومن خلال التوطئة المنشورة اتضح ان وجهة نظر الدكتور كمنز ان الدعوة الوهابية تكونت نتيجة تراكمات فكرية, وأمر آخر يميزها هو موقفها من الدولة العثمانية.. ذلك الموقف الذي أدى إلى الصراع بين الوهابيين والعثمانيين, وان ذلك الصراع -كما يقول الوهابيون- ليس من أجل السياسة أو الملك, وإنما للتأصيل الفكري للدولة وحمايتها ولذلك توسعوا في توزيع القاب من يتصفون بمخالفتهم, فكفروا البعض ووصفوا البعض الآخر بالالحاد أو النفاق, وتدل فتاوى الوهابيين ان الغرض منها منع تسرب الأثر العثماني إلى ميادين الفكر أو الدين أو السياسة أو الإدارة إلى نجد التي ظلت خارج السيطرة العثمانية.. ووصف الكاتب تلك الأفكار بأنها اكثر من جيدة وانها تعني النزوع إلى الانفصال والانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى أن التحديث الذي حمله العثمانيون إلى الأحساء سنة 1871م كان قد رفضه الوهابيون بفعل نظام المناعة المتمثل في ثقافتهم الدينية المحلية.. الخ!!
وإزاء هذا التبسيط الشديد لمفهوم الدعوة الإصلاحية المعروفة لدى الغربيين بمصطلح (الوهابية) أراني لا أجد ما يحملني على أن اشارك صديقي وصفه الدكتور كمنز بأنه ينزع فيما يكتب إلى التعمق في الأسباب وخلفية الموضوعات المطروقة, ومع هذا فسأكون مثالياً, فأبعد كمنز عن مواطن الشبه, وأحمل قوله فيما يستنبطه, على أن ذلك ربما ينصب على جانب العنصر الحركي في الدعوة, لكنني لن أعفيه مطلقاً من أنه في هذا التعريف أغفل الجانب الأهم وهو انتماء الدعوة إلى الإسلام الصحيح, ذلك الانتماء الذي وفر لها بقدر كاف الطابع السياسي الذي أغناها عن أية ثقافة محلية أو فلسفية.. ولذا كان الموقف الديني عند أهل هذه الدعوة لا يختلف عن غيرهم من حيث العموم, بل ما زال صاحب هذه الدعوة وتلامذته يؤكدون - دونما داع إلى الشك- بأن دعوتهم لم تقدم جديداً, ولم تتطرق إلى مفاهيم لم تكن مدونة في المراجع الموروثة قبل مولد صاحب الدعوة بمئات السنين, وان تلك المفاهيم والقضايا التي تناقشها قد بحثت ونوقشت منذ القدم, حتى ان خصوم صاحب الدعوة حاولوا التقليل من شأن دعوته بأن ما يورده كان معلوماً لديهم ولدى غيرهم من علماء الإسلام.
لذا فإن ما أثار الدهشة في هذا الجانب هو قوة التأثير الإيجابي الذي حققته الدعوة رغم كل ما ذكر, فكان من تأثيراتها السياسية أن أدخلت أطرافاً كثيرة في حوار بدأ منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ولم ينته بل وأظنه لا يراد له أن ينقطع.. وهذا لم يكن ممكناً إلا بسبب انتماء تلك الدعوة للإسلام وأنها التعبير الصحيح عن فهمه, لاسيما بعد أن ألمت بالمجتمعات الاسلامية في تاريخها الطويل الكثير من المفاهيم المحرفة التي شوهت جوهر الإسلام.. حتى التبس بممارسات تسللت إليه رغم وجود التراث المدون والعلماء الدارسين!!
ولا ريب أن ما حدث كان نتيجة للاستسهال وبتأثير قوى اجتماعية وسياسية أبعدت الناس في كثير من البلاد الإسلامية عن الفهم الصحيح الذي تبنته الفكرة الوهابية حيث جعلت المنطلق العودة إلى فهم السلف في تفسيرهم للنصوص في القرآن والسنة, وهذه إحدى الخصائص التي تميز بها أصحاب الديانة الإسلامية تبعاً لدينهم الذي جعل حياة الناس محور العقيدة!!
من هنا جعلت (الوهابية) الأولوية في هذه التغطية لنقطة البدء وهو التوحيد الذي يقود بدوره إلى تطهير الفكر والسلوك..
وفي هذا الإطار تصدى قادة الوهابية لكل الخزعبلات والخرافات والمعتقدات الوهمية ومن بينها المعتقدات التي جعلت البشر في مرتبة تشابه مرتبة قدرة الله من أجل صلاح أولئك البشر وفضائلهم دون أن تكون تلك العقيدة المناهضة لمثل تلك المعتقدات في مواجهة طرف بعينه أو ضد احترام وليٍّ أو صالحٍ!!
لذلك اصطدمت (الوهابية) - في هذا المعتقد- بدول ومؤسسات يأتي في طليعتها مؤسسات مهنة الدجل والشعوذة واحتراف الكرامات دون دعوة إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو مذهب إمام من الأئمة العظام الذين يعظهم علماء الدعوة الإصلاحية المسماة ب(الوهابية) بل إنهم يدعون إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويرفضون القول بأن الحق مع الأغلبية!!
وكان من فضل تلك الدعوة أنها أنقذت في أول أمرها إقليماً كان قد خرج من ذمة التاريخ لعدة قرون حتى إن ذلك الإقليم لا يذكر في التاريخ إلا عندما تعتدي قبائله على قوافل الحجاج والمعتمرين, رغم وجود فئام من علماء الدين في ذلك الإقليم, لكنهم لم يفضلوا الدخول في مواجهات مع العامة أو مع الخاصة كذلك!!
وكان من الفضائل التي لا تنسى لهذه الدعوة ان جميع الحركات المثالية التي انبثق ضوؤها في عدد من البلاد الإسلامية والعربية استجابة ولا أقول صدى لهذه الدعوة!!
ولم نسمع أن أحداً أقدم على وصف آليتها وبنائها السياسي بأنه يعتمد على ثقافة دينية أو محلية وجدت نتيجة تراكمات فكرية وثقافية, وما صدام تلك الدعوة مع السلطة القائمة آنذاك إلا من باب الحتمية, لأن السلطان العثماني حينها كان بعيداً عن نجد ليس له فيها أكثر من وجود اسمي.. ولماذا كان حتمياً؟ لأن السلطان يعتمد على نظام تعارضه (الوهابية) وهو المسؤول آنذاك لاسيما وأن الدعوة الوهابية لا تتقيد بأي مطلب أسري أو قبلي أو إقليمي.
ونحن لا نختلف مع الكاتب أو مع غيره من أن الموقف الديني عند (الوهابية) والموقف الديني عند الدولة العثمانية لا يختلفان في شيء!!
ومع هذا فقد أحرزت الدعوة نتائج سياسية واجتماعية حققتها على أرض الواقع دون أن تقدم جديداً أو تطرح فكراً مغايراً.. فقد تحقق لها رغم أنها ليست مذهباً ولا فلسفة وإنما مجرد انتماء للإسلام, فكان ذلك كافياً إلى أن تتطلع إلى ثورة ضد التقاليد البالية والمعتقدات الخرافية بل والتخلف ضد السلطنة التي تدعم كل الموبقات وتحرس قيود العجز في كل بلد!!
وكانت (الوهابية) نظرياً تحدياً للسلطنة العثمانية، تحدياً غير مباشر, فكانت التعبير المتاح لأماني الشعوب وأشواقها ضد النفوذ الأجنبي, والصورة الظاهرة على مسرح الأحداث.. ولذلك استهدفت دون غيرها. رغم ان كتبها الأصيلة ومنطلقاتها تدور حول أعمال دينية إيماناً منها بأن حياة الناس بالإيمان هو المحور الذي يمنح الإنسان الرفاهية ويحميه من نفسه ومما يؤذيه ولم تخرج (الوهابية) عن ذلك الإطار إلا في سياق التحرش بالفكر السائد في رسائل استفزازية وفي تصدٍّ للقيادات الفكرية ودعوتهم إلى المجادلة, وفتح باب الاجتهاد في الدين الذي ظل مغلقاً في جميع المذاهب الإسلامية لفترة طويلة وبحجج واهية!!
فهذه هي الدعوة (الوهابية) وهذا هو انتماؤها.. ولا أدل على هذا الانتماء من حيويتها باستئناف نشاطها أكثر من مرة رغم توقعات الكثير وتمنياتهم لها بالانقراض!!
فنظام الدعوة السلفية وتاريخها وما ترتب عليها يؤكد أنها كانت ثورة على الواقع ودعوة لتحرير الإنسان المسلم وإسقاط الكهنوتيات السائدة في عصره وما سبقه من عصور.. وقد وصفناها بالثورة لأن معنى الثورة بغير مفهومها السوقي الشائع هي رفض الواقع, لأنه غير جدير بميزانهم الإسلامي.
أما من يرفضون تراثهم أو تاريخهم فثورتهم كاذبة لأنها لا أصل تعتز به, فالثورة الحقيقية تبدأ بالاعتزاز بالتراث وجعله القاعدة في البناء الحضاري, دون ان يهدم وينام تحت أنقاضه.
فأهم ما يشغل البال في نظرهم هو موضوع العقيدة, فهم يرون أن الحياة بدون عقيدة عبث.. لذلك رأوا أن على المرء أن يبحث عن الجو الملائم لممارسة عبادته.. لذلك كان حديثهم حول البلاد الأخرى والاضطهاد الديني والسفر إلى بلد لا يعطي حرية الدين, وحددت ذلك بما يتفق وظاهر النصوص الشرعية.
ودع عنك ما يشاع عن الوهابية في غير مناطق نفوذها من أن مذهبهم تكفير المسلمين بالعموم, وكذلك ما روجه طغمة من ذوي المناصب في الدولة العثمانية, أو من علماء محليين ذهلوا لنجاح الدعوة, وقد انجلى الموقف في هذه القضية بجهود المخلصين عندما انعقد حوار في المسجد الحرام في زمنين مختلفين..زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وفي زمن الإمام سعود الأول وكان موقف الشيخ وخلفائه, هو اعتماد رسالته التي قال فيها: (أما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول.. ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعاداه, وأكثر الأمة ولله الحمد ليس كذلك وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس أو الحرمة, وهم الذين أتونا -يعني الجيوش الباغية- في ديارنا, فقاتلنا بعضهم على سبيل المقاتلة, وجزاء سيئة سيئة مثلها).
وأخيراً يتملكني إحساس لا أستطيع أن أدلل على صحته أن ما كتبه الدكتور كمنز عن (الوهابية) لم يكن سوى ملامح مما يصوغه أو صاغه خصوم الدعوة, أو أن هذه المقاطع تحتاج منه إلى مزيد من التنقيح والإيضاح.
|