اختلطت الأحداث وبدأت تتحرك من خيال إلى خيال آخر يليه، فخفتُ أن تستمر الأمور على هذا الطريق فأغادر عالم الجن إلى منطقة لم يعرفها أحد من قبل. فقررتُ أن أغمض عيني وأن أتصدى لنزيف التحولات والتخيلات المستمرة التي تبديها هذه الجنية المسكونة بحبِّي. عبرت بي ثمان نساء مررن في حياتي القصيرة أكثرهن طالبات مدرسة. ولكني تسمرت عند إنسية في الثلاثين من عمرها تبيع البيض في سوق المقيبرة. ما زال منظر يدها البيضاء المليئة بالغوايش يقلق تحولاتي الجسدية. في إحدى المرات أحسست أنها شاهدتني وأنا أدربي جحه من تحت قدمي لزميلي الذي كان على أهبة الاستعداد للهرب بها. لم تفضحنا، تواطأت، فتحولت سرقات الجح إلى نوع من الاستعراض أمام امرأة مليئة بعوامل الافتنان. كانت جميلة بمقاييس أهل مقيبرة ولصوص الجح الصغار والعابرين. ويبدو أن طرطوشة فهمت الرسالة، فقد تحركت من وسط الحشد على صورة بائعة البيض واتجهت إلى منزل مهجور يقف في الطرف الثاني من الحيالة التي تقام فيها محاكمتي، وتوقفت عند باب جذوع. من الواضح أن البيت لم تطأه قدم بشر منذ عشرات السنين. لكزني مرافقي أن ألحق بها. خطوتُ، فخطا الحشد كله. فبقدر ما كانوا ضبابيين لم تكن حركتهم الجماعية كذلك، لا يتداخلون لا يقتربون من بعضهم، تختلف مناظرهم عن الأصوات التي تصدرها كتلهم الجسدية، لا يمكن أن تتخيل أن يكون للبخار أو الدخان أصوات فضلاً عن أن تكون هذه الأصوات قرقعات واحتكاكات وتكسر أخشاب جافة. أخذت تغلغل الباب وتهزه، ولكنه لم يفتح، كان غائصاً في الأرض بعد أن تحول إلى مكب قمامة. عندما اقتربتُ منها أحسستُ بجمالها محاطاً بالعفن. لم أكن أشم أي روائح ولكني أتذكرها، كل شيء في هذا العالم مصنوع في داخلي، أنا الذي يجريه بالتفاهم مع شيء غرس في وجداني. من الواضح أن عالم الجن يقع في بُعد آخر غير الأبعاد المكانية الثلاثة التي يدركها البشر. كانوا يصنعون لي عالماً موازياً بالتدخل المباشر في أخيلتي ورؤياي ومخاوفي والعبث بكل الملفات التي تحتوي عواطفي. لم أعرف كيف أتشكل لمواجهة الموقف: هل أنا في حالة حب أم خوف؟ هل أتحرك عاطفياً أم جسدياً؟ وخصوصاً أن القلق بدأ يعاودني بعد أن اختفى محاميَّ. لقد تم تسليمي رسمياً لها. عرفتُ أن عليها أن تدخل فيني، وأن عليَّ أن أدخل بها في هذا البيت المهجور لأبدأ حياة جديدة. سبقتها إليه ودفعت بالباب فتهاوت القمامة التي تعوق حركته فانفتح. كان البيت في غاية الإظلام، فالتفتُّ إلى الحيالة التي يتجمع فيها الحشد فلم أرَ أحداً. لقد اختفى الجميع بما في ذلك بائعة البيض أو حبيبتي الجنية. تلفتُّ يميناً وشمالاً لم يَبْقَ من حشد الجن سوى بقايا الجذوع الميتة وبرميل القاضي، فرفعت رأسي إلى السماء لعلِّي أشاهد عالمي الذي هبطت منه، فشاهدت مئذنة مسجدنا بعيدة كأنها معلقة في سقف الوجود تنحني بحنان نحوي. عليَّ أن أدخل البيت. إرادة فوق إرادتي تسحبني إلى الداخل. كدْتُ أن أسقط؛ فالبيت هابط حوالي نصف متر تحت مستوى الحيالة. كان منزلاً صغيراً جداً متواضعاً، لا بد أنه كان في الأصل بيت فقراء معدمين. لم يعد يصلح للسكن، تشققت أرضيته وبدا على أعمدته التصدع، لم يُترك فيه أي قطعة أثاث تشير إلى ساكنيه الأصليين، اختفت منه رائحة البشر، فقد أصبح موطناً لأهل الأرض. تذكرت سكة سد في حي البازمي، كنا نلعب فيها كورة، فدخلت الكورة أحد البيوت، فلحقها أحد الأطفال ودخل وراءها، ولكنه تأخر. انتظرناه، وبعد حوالي ساعة خرج الصبي وفي يده الكورة، ولكنه لم يعاود اللعب. رمى بالكورة علينا وتركنا ومضى مشدوهاً، كان يسير بشكل آليٍّ فاغراً فمه كأنه لم يَرَنَا من قبل. لم نعرف ما الذي حلَّ بالصبي بعد ذلك اليوم. ترددت الإشاعات بعد سنوات أنه انتقل للسكن الأبدي في مستشفى شهار بالطائف. هذا البيت يشبه ذلك البيت في كل شيء، إنها بيوت الفقراء إذا تركها أهلها لا يطمع فيها أحد، تبقى خالية إلى أن يأتي أهل الأرض ليحييوها. وقفت في بطن البيت أصنع بخيالي الحياة التي كانت فيه، والبشر الذين تحابوا وتخاصموا يوماً في هذه الحجر المهجورة. لا بد أن أحدهم ما زال على قيد الحياة في مكان من هذا العالم. ليته يعلم أن بيتهم صار موطناً لجنية وحبيبها الإنسي. نكمل حكاية الجنِّيَّة التي أحبَّتني بعد غد.
فاكس 4702164
|