يردد البعض مقولة (لا يُصلح العطار ما أفسده الدهر)، كدليل على العجز والفشل ضد وقف آثار تقدم العمر بالإنسان، وعلى تفاقم الشيء، واستحالة إصلاحه.. لكن الزمن تغيَّر، وظن الناس خطأ دلالة ذلك القول المأثور، فالطب والعلم الحديث (يبشر)، بعد الاكتشافات العلمية المثيرة، بقدرته على إصلاح ما أفسده الدهر، فتقنية البيولوجيا واكتشافات الجينات ووباء الإيدز وطفرة الاستنساخ قدمت دلائل مخبرية على إمكان إحداث تغيير مؤثر في داخل الخلية البيولوجية.. إذن أصبح من الممكن (نظرياً) إصلاح ما أفسده الدهر.
والتحدي الأكبر أمام الإنسان هو في إمكانية إيقاف ميكانيزم الشيخوخة، واكتشاف إكسير الحياة والشباب الدائم، لكن النتائج الإكلينيكية والتطبيقية أثبتت إلى الآن استحالة الأمر، فالنعجة (دولي) التي خرجت للحياة من خلال عملية استنساخ أصابها داء الشيخوخة مبكراً، وأدوية الزهايمر التي صممت لوقف تدهور داء الشيخوخة عجزت في انتشال (رونالد ريغان) من رحلة النسيان، ولا تزال نتائجها مخيبة للآمال، برغم من كل محاولات التسويق الدعائي للمركبات الجديدة.. ولعل معجزة الخلق تكمن في ثنايا القواعد الأربع، التي تشكل الحمض النووي، والذي يتكون من أكثر ستة مليارات زوج قاعدي، وربما ستصل محاولات العلماء إلى نهايتها، إذا تبين أن لتلك القواعد عمرا محددا، تموت بنهايته قدرتها على إنتاج الأحماض الامينية والبروتينات.
سيظل الأمل العلمي المرتقب ينحصر في قدرة الطب الحديث على معالجة الأمراض الموروثة بتعديل (الجين) المتوارث من الأجيال السابقة، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين الإنتاج وتعديل خلل موروثات النسل الجديد، وبذلك يتم إنجاز جزء من ذلك الحلم القديم: تحسين نوعية الحياة، ولكن مع استحالة وضع نهاية سعيدة لأرذل العمر. وهندسة الجينات هو المصطلح الذي يصف عمليات التدخل في الموروث الجيني، وينتظر منذ عقد من الزمان الانطلاق في عالم الاستهلاك البشري.. والمأمول من (الهندسة) البيولوجية إصلاح خلل الموروث من الأجيال السابقة. والصعوبة أوالخطورة التي تواجه هذا العلم أن أي هندسة جينية قد تحدث نتائج مخالفة لما خطط له، ويعتمد العلماء كثيراً على الحيوانات لإجراء تلك البحوث، التي قد تكون نتائجها في غاية الخطورة، إذا لم يتم مراقبتها جيداً، وهو أمر في غاية الصعوبة.. فبالرغم من منع عمليات الاستنساخ البشري دولياً إلا أن الاخبار تتحدث عن محاولات جادة تحدث بعيداً عن عيون الرقيب الأخلاقي.
ويأتي مصطلح (الهندسة) في أحيان أكثر شيوعاً مرادفا للعلوم التطبيقية كالكهرباء والنفط والإلكترونيات، وفي مستوى أقل استعمالا في مجالات الاقتصاد والسياسة، وأيضاً في عالم الجرائم المنظمة وغسيل الأموال، وهناك من يعتقد أنه بمقدوره إحداث تغيير في عوالم السياسة والاقتصاد بما يتوافق مع مصالحه الذاتية، ويرى البعض أن ما يحدث في العالم بعد سقوط الكتلة الشيوعية، وانتهاء مرحلة الجمود والشلل الذي أصاب العالم، بسبب مواقف وخطط متساوية في القوة، لكن متضادة في الاتجاه، هو عبارة عن (هندسة) سياسية واقتصادية يقوم بإعدادها وتنفيذها خبراء وساسة من الكتلة الغربية..كما أعاد (الهاكرز) استعمال مصطلح هندسة اجتماعية، وهي كلمة تستخدم في عالم الإنترنت لوصف أسلوب الاختراق الذي يعتمد على ضعف في نفس الضحية، الغرض منه خداع الناس للحصول على كلمات سر أو أي معلومات أخرى تخص نظام أمن الهدف.
ويرى بعض علماء الاجتماع أن عبارة (هندسة المجتمع) تفهم على أنها جهد ومسعى معين يهدف إلى إعادة ترتيب المجتمع بما يتوافق مع مصلحة السلطات والقوى المهيمنة، ويقوم بالدور عادة ما يطلق عليه النخبة أوالمثقف النخبوي، أومثقفو القوى المتعددة، وقد تكون نتائجها (سليمة)، إذا اتفق الجميع على مصالح مشتركة، ولكن إذا حدث تضاد في المصالح أو اختلاف في كيفية إدارة المجتمع يكون الصدام والصراع غير المحمود.. ويرى بعض المهتمِّين بعلم الاجتماع السياسي أن تلك العمليات تزداد تعقيداً إذا تطور الوعي أوالذكاء الاجتماعي، مما يجعل تلك السلطات تدافع بأساليب أكثر تعقيداً، وربما عنفاً، وهو ما يجعلها تزج بمزيد من النخب إلى ساحة الصراع، وإلى صدارة العمل السياسي، ظناً منها أنها تتحرَّك في الوقت المناسب، لكنها تكتشف لاحقاً أن تحرُّكها -عملياً- يسير بعكس الهدف المقصود، أو إلى مرافئ أخرى ليست مستهدفة، وهو ما يعني انتحار رمزي لتلك النخب التي قادت تلك العمليات إلى الفشل، وبالتالي تسبب هندستها إرباكاً وتذبذباً منظوراً، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح على أوجه (نشاط) وتحرُّك السلطة وفعاليتها المختلفة في المجتمع..! وفي عالم الإدارة، كما هو الحال في المجتمع، لا يُصلح (عطار) ما أفسده الدهر، إذا تم إعادة إنتاج أساليب منتهية الصلاحية، ومحاولة إخراجها بثوب جديد، ولكن من خلال نفس العقلية القديمة، فلا يمكن إحداث تغيير ناجح في المجتمع أوالمؤسسة من خلال تقنية قديمة أو من خلال نفس الإرث الذي يحتاج إلى إعادة صياغة أو إلى تقنيات هندسية اجتماعية وسياسية واقتصادية متطورة.. وأي نية للتغيير الإيجابي في المؤسسة الإدارية يجب أن تبدأ من خلال استبدال الحرس القديم، وإحلال قدرات إدارية، ومفاهيم واصطلاحات حديثة، وذلك من أجل إثبات صحة مقولة أن المجتمع أو الدولة أوالمؤسسة أو المصنع قادر فعلياً على إعادة شبابه، وأن الشيخوخة والهرم وأرذل العمر طبيعة بشرية،لا علاقة لها بما يحدث خارج ( قواعد) بيولوجيا الخلية الحيوانية... !
|