تنفر الأسماع بطبعها عند سماع كلمة الإعاقة، ولكن هذا لا يمنع لغة الأرقام والإحصاءات من أن تتكلم عنها فنقف مدهوشين أمام الرقم الصاعق الذي سيواجهنا، والذي يبدو أمامنا مصوّراً لحجم المشكلة، فقد دلّت تلك الإحصائيات على أن ما يزيد عن 10% من سكان العالم يعانون من شكل من أشكال الإعاقة، وهذا لا يقتصر على دول العالم الثالث أو الدول الفقيرة أو التي تصنّف على أنها دول متخلّفة فقط بل هو عام في جميع المجتمعات دون استثناء ففي نظرة إلى المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية نجد وفقاً لإحصائياتهم أن فيها أكثر من ثلاثة وأربعين مليون معوق، هي إذن مشكلة وواقع عالمي، لا تفرضه فقط حالات الإعاقات الخلقية بل تساهم فيه الحوادث والحروب والإرهاب التي ينتج عنها زيادة أعداد المعوقين الذين يشكلون بإعاقتهم واقعاً له الأثر السلبي على الأداء الاقتصادي لأية دولة بما تعنيه من طاقة بشرية معطّلة وما يتطلب من رصد ميزانيات لمساعدتهم وإنشاء معاهد ومؤسسات رعاية وتأهيل ومنظومة إدارية وطبيّة لهم وتفرغ من آخرين لرعايتهم والاهتمام بهم ومرافقتهم والكلفة المالية التي يستنزفونها سواء الخاصة أو العامة، كل هذا إضافة للمشكلة الإنسانية التي تفرض البحث الجدي والعمل على التخفيف من آثارها السلبية، يضاف إلى ذلك كله المعاناة والألم.
ومن هذا الفهم الواعي لحجم المشكلة، كان الدور الكبير الذي اطلعت به المملكة بتوجيهات راعيها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله، ومتابعة ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وتفاني أمير الخير والإنسانية صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز في بذل كل جهد وتسخير كل طاقة لاستيعاب هذه المشكلة، والعمل على إيجاد حلول نافعة ومفيدة لها، وكان أن عقدت الندوات واللقاءات والبحوث والدراسات لتصبّ كلها في نهر الخير، ولم تقتصر نشاطات المملكة على المستوى المحلي بل كان لها الدور البارز في الانتشار على الساحة الإقليمية والعربية والإسلامية والعالمية، وكان آخرها الملتقى الرابع للجمعية الخليجية للإعاقة، الذي التأم شمله برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام والرئيس الأعلى لمؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية.
فبعد أن أدركت دول الخليج أهمية توحيد الجهود ومضاعفتها لتحقيق الرخاء لمواطنيها ولا سيما الفئات المحتاجة لرعاية خاصة تأسست الجمعية الخليجية للإعاقة في مملكة البحرين عام 1999م بجهود مخلصة من أبناء دول مجلس التعاون، ومن أهدافها تقديم الخبرات والتنسيق وتوحيد الجهود لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة في تلك الدول، وتبادل الخبرات، وتنظيم ملتقيات تصبح ساحة دراسة مفيدة تقيّم المرحلة السابقة وتؤسس لمرحلة قادمة، تفصل بين الخطأ والصواب وتستنبط من خلال التجربة ما هو الأفضل وكل ذلك لخير المجتمع. وتأسيس وقفة شجاعة أمام الذات في ضوء شفافية تهدف إلى معالجة أمور في غاية الأهمية، ونقد ذات سمح يلفت الانتباه إلى تفاصيل قد تبدو عابرة لكنها هامة وضرورية، عبر ثلاثة محاور رئيسية ومتجانسة:
المحور الأول وهو محور يشمل تأهيل وتثقيف الأفراد بدءاً من الشباب قبل الزواج وبعده، ثم في مرحلة تشكّل الجنين إلى الطفل وكل ما يتعّلق به من وقاية وعلاج، والشباب والحاجة إلى تأهيلهم وإعدادهم، وانتهاء بالشيوخ وما يحتاجونه من رعاية وتكريم، وهذا دون شك يساهم بفاعلية في تطوير مدارك الجيل ويساهم بالحد من مشكلة الإعاقة.
المحور الثاني ضرورة الاهتمام بمواطن الرعاية بدءاً من المنزل الفاعل الأهم في التربية والسلوك، ثم المدرسة، فالمؤسسات الخيرية والحكومية، ثم دوائر العمل والتشغيل الخاصّة والعامّة التي عليها توفير العلاج والتأهيل وبرامج الوقاية والمعلومات والإحصائيات وإعداد الخطط الشاملة التي تستوعب المعوقين وتأمين فرص العمل للمؤهلين من المعوقين وذلك تحقيقاً لروح المادة الرابعة والخمسين من نظام العمل والعمال في المملكة التي تنص فيما تنص: (على كل صاحب عمل يستخدم خمسين عاملاً فأكثر، وتمكنه طبيعة العمل لديه من استخدام العاجزين الذين تم تأهيلهم مهنياً أن يستخدم اثنين بالمائة من مجموع عدد عماله منهم، سواء كان ذلك عن طريق ترشيح مكاتب التوظيف أو من غير هذا الطريق..... إلى آخر ما جاء في هذه المادة)، فهل هناك ضابط لتنفيذ هذا النظام؟
من المؤسف أن بعض سوق العمل لا يقبل الشباب المعوقين برغم أنهم قادرون على الإنتاجية، ومؤهلون بجدارة للقيام بمسؤولية ما يوكل إليهم من أعمال، ومن أبسط حقوقهم على مجتمعهم أن يقبل انخراطهم في منظومته ليخرجوا من إحصائيات البطالة ويرفعوا العبء عن خزينة الدولة لصالح مشاريع استثمارية نافعة، وهذا يعطيهم حقهم بالعيش الكريم في نسيج المجتمع، ومن المؤسف أن نذكر بأن استيعاب المعوقين في المؤسسات الخاصة لا يتجاوز خمسة في المائة، في وقت تستحق هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة اهتماماً أكبر وإعداداً أشمل وقوانين أكثر عدلاً وإلزاماً، وتنفيذاً أكثر جدية وصرامة.
أما المحور الثالث فهو يتعرض للوجوه الرئيسية لكافة أشكال الإعاقات الخلقية والمستجدة المسببة للإعاقة الحركية والحسية والذهنية والعقلية وأخيراً الإعاقة المزدوجة والمركبة.
ومن خلال هذه المحاور الثلاثة يصبح المعوقون شركاء كاملي الأهلية والاستحقاق وإلا كان المجتمع نفسه هو المعوق إن لم يحافظ على كرامتهم وإنسانيتهم واندماجهم بعد تأهيلهم.
ومن المفيد أن نضيء هذه العجالة بذكر بعض الإنجازات المشرفة التي حققتها وزارة التربية والتعليم في المملكة كجهة تحمل جزءاً من المسؤولية في تحمل أعباء مشكلة الإعاقة من خلال مسيرتها السابقة من أهمها: دمج الأطفال المعوقين بعد تأهيلهم مبدئياً في مدارس التعليم العام، حيث ارتفع عدد معاهد وبرامج التربية الخاصة للبنين والبنات من (66) معهداً وبرنامجاً إلى (1560) معهداً وبرنامجاً، وارتفع عدد الطلاب والطالبات من حوالي ثمانية آلاف إلى ما يزيد على أربعين ألف طالب وطالبة، وهذه الأرقام ليست أرقاماً للحديث فقط ولكن لها ما لها وما وراءها من جهد وتحضير وتدريب وتخطيط ومسؤولية، وهي من بعض نشاطات واهتمامات المملكة ورجالاتها من واقع شعورهم بثقل المسؤولية وخطورة المشكلة، ولا يفوتنا أن نذكر توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله بطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، حيث يمكن قراءة النص القرآني بواسطة اللمس لخدمة المكفوفين، التي يدعمها حفظه الله من ماله الخاص، وتشرف عليها الأمانة العامة للتربية الخاصة بالوزارة، كما تقوم الوزارة إضافة إلى توزيع القرآن الكريم بتوزيع الكتب الثقافية مجاناً على المعوقين بصرياً في جميع أنحاء المعمورة.
ولعل المثال الأكثر وضوحاً وتفاعلاً ونشاطاً وخدمة حقيقية على الأرض ما تقدمه مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية من رعاية طبية للجميع ومن خدمات إنسانية ماديّة ومعنوية وتعد تلك المدينة بطواقمها ومناحيها الخدماتية ومدارسها المتميزة من أكبر المدن التأهيلية وتضاهي مثيلاتها في العالم بل قد تعد الأكبر على الإطلاق في شتى أنحاء المعمورة وهي إضافة إلى الخدمات المحسوسة، تسهم في تعليم الناس كيفية التعامل مع المعوقين.
لقد أدركت المملكة برجالها الأوفياء وحرصهم على رفاه المجتمع وصالح الإنسان حجم مشكلة الإعاقة وبدأت منذ وقت سابق في العمل الدؤوب لاستيعابها والمساهمة في حلّها، نسأل الله القدير العزيز أن يوفق أولياء الأمور إلى ما فيه خير وسعادة وصحة الرعية، ونسأله تعالى أن يهديهم إلى سبل الخير والرشاد، انه ولي ذلك والقادر عليه.
الرياض - فاكس 014803452 |