من فنون الدفاع عن النفس التركيز على استغلال اندفاع الخصم.. بمثل هذه العقيدة القتالية يستثمر أعداء الإسلام جرائم التفجير والكفير.. اليوم بَغْيٌ في الخبر، وأمس في ينبع، وقبلهما في الرياض، واليوم وأمس وغداً الضحية هو الإسلام، لأن من يملك الإعلام يستطيع أن يسخر الأحداث لتحقيق أهدافه. و(من مأمنه يؤتي الحذِر)، كما قيل في المثل العربي. (وكَمْ مِنْ مُريدٍ للخيرِ لنْ يُصِيبَهُ) كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن ابتدعوا في العبادة بدعاً صغرى، صارت بعد ذلك بغياً وكبائر، حين قاتلوا في صف الخوارج ضد إخوانهم من المسلمين، كما في سنن الدارمي.
هذه الأحداث تستغل من قبل القوى الكبرى للتضييق على الإسلام، لاسيما في مهده ومأرزه، وقد وظفها الشيطان في توسيع ملكه، وبسط نفوذه. والشيطان: اسم جامع لكل من يكره الإسلام ويكيد للمسلمين، وهناك في الجن شيطان أكبر، وفي الإنس أيضاً، وهذه التفجيرات معزوفات عسكرية ومصدر إلهام فلسفي للشيطانين، وأعوانهما.
لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الحد على شارب خمر وانصرف المحدود قال رجل: ما له أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواه البخاري.
فيا عباد الله لا تعينوا الشياطين على إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها!
وإني لأرثي لبساطة التفكير والمعاذير الذي تبنى عليها هذه الأعمال الكبيرة، ذات النتائج الخطيرة. وأتعجب لتقصير مرتكبيها في التقصي عن معاني ما يحتجون به لأعمالهم، من مثل احتجاجهم بحديث الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وهو حديث صحيح. لكن في شروح أئمة الحديث تفاصيل أساسية حول تحديد جزيرة العرب، وما يمنعون منها، وهل الممنوع المرور، أم السكنى، وهل لولي الأمر أثر في تقدير المصلحة في وجودهم والبناء عليها، وغير ذلك.. وأقل ما توحي به هذه التفاصيل أن في المسألة اختلافات كبرى بين العلماء المحققين، وهذا كاف ليردع المسلم عن تخطي الحدود وسفك الدماء وترويع الآمنين، والتفريط بسمعة الدين والمتدينين، اعتماداً على تأويل من ضمن تأويلات عديدة للحديث.
ومما يصور جانباً مهماً من هذه الخلافات العميقة في تفسير مقاصد ذلك الحديث ما قاله ابن حجر في كتابه (فتح الباري) وما نقله عن الأئمة في مواضع عديدة منه.. قال: قال الأصمعي: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين، إلى ريف العراق طولاً ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام عرضاً، وسميت جزيرة العرب لإحاطة البحار بها، يعني بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة، وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام، وبها أوطانهم ومنازلهم. لكن الذي يُمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور، وعن الحنفية: يجوز مطلقاً إلا المسجد، وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا باذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة.
أنا لا أبحث في الترجيح، ولا استطيعه أصلاً، لأني لست من أهله، لكنني اتساءل: هل كفر الإمام ابن حجر مخالفاً، أو وصفه بصفات الازدراء، أو اتهمه بالعمالة للطغاة والسلاطين، أو دعا لتصفيته واغتياله، او أمر اتباعه بإحراق كتبه واستهداف مذهبه؟ كلا..
ومن ناحية أخرى أشعر أن مما أوقع اولئك الشباب في مصائد القتل والعنف عقدة الإحساس بالذنب العميق والتقصير تجاه الإسلام، وما يجب له من حق النصرة والتأييد، وهذا منهم قصور في النظر والفهم لحقيقة الإسلام، وقد تسلل اليهم بعد أن شغلوا أنفسهم عن طلب العلم الشرعي بقيل وقال من حوارات القنوات والإنترنت وتراهاتهما، واستركضهم بهما وبغيرهما شيطانا الإنس والجن، من حيث لا يشعرون، أو يشعرون.
ولم يؤت بعض أهل التعبد والالتزام إلا من قبل التطرف في حمل النفس على الاتيان بالمأمورات دفعة واحدة، من غير تمييز بين نافلة وفريضة، ولا فاضل ومفضول.. ومن غير فهم لحقيقة هذا الدين الحنيفي الفطري الذي أسست أحكامه على قاعدة من التدرج والترقي في كل شي: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} الحج:78، بدءاً من الإيمان الذي تنقدح شرارته في القلب عند التلفظ بالشهادتين مع بقية الأركان، لتليهما مرحلة التزود بالنوافل وزوائد العبادات، فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فان المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
وبغير ما وعي أو تفكير ينساق بعض الناس وراء التطرف، ويلتزمون أحد النقيضين، فهم بين الإفراط والتفريط، وكل منهما قنوط ويأس وسوء ظن بالله تعالى، وهذا لا يتناسب مطلقاً مع الإيمان بأن الإسلام وسط، وأن أتباعه كذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} البقرة:143، أي عدلاً وعدولاً، وقال ابن حجر في الفتح: قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، يقولون فلان وسط في قومه وواسط إذا أرادوا الرفع في حسبه، قال: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء الذي بين الطرفين، والمعنى: أنهم وسط لتوسطهم في الدين فلم يغلوا كغلو النصارى ولم يقصروا كتقصير اليهود، ولكنهم أهل وسط واعتدال، قلت - ابن حجر - : لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحاً لمعنى التوسط أن لا يكون أريد به معناه الآخر كما نص عليه الحديث، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية والله أعلم.
وفي تقديري أنه لم يخترق العقل الإسلامي بمثل ذلك الفكر أحادي النظر، وهو ما تعاني منه الفئات المتطرفة، أعني تحجيرهم لافهامهم على جملة من التصورات الضيقة لقيم التغيير وأساليبه، وعلى الأخص درجات النهي عن المنكر، وتغيير الأفكار إلى ما يرونه الحق المطلق.
وبعيداً عن الدخول في دعوى (المطلقية)، فلا بد لي من إشارة إلى أن ما قرأته من كلام الأئمة في شرح حديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) يؤكد كله على أن المناط في درجة الإنكار متروك للنظر في (العاقبة المتوقعة من طريقة التغيير، والنتائج المترتبة عليها).. إذ ليس ثمة أحد لا يستطيع ان يغير بالفعل، وهؤلاء المفجرون يغيرون بالفعل كما نرى، لكن النتائج كما نرى أيضاً، فالاهتمام والمقياس يجب أن ينصبا على تقدير النتائج وتوقع الثمار المرجوة، فأي ثمرة جنوها للإسلام والمسلمين من التسرع في تكفير المسلم، والتساهل بخلط دمه بدماء الكافر. إذاً مهما كانت الثمرة حلوة في مذاقهم! فلن تكون بمقدار حلاوة الثمرة التي جناها اليهود والنصارى من التشويه للإسلام والتضييق على أتباعه، وتقييد انتشاره، ومرارة الثمرة التي جنوها من بغض أكثر الناس لطريقتهم ومقتهم لمنهجهم حين بدا أن كل متدين ناله من غبار هذه الفتنة ما ناله! قال القاضي عياض رحمه الله فيما نقله عنه النووي في شرح هذا الحديث وبيان آداب الآمر والناهي: ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر أغلاظه منكراً أشد من غيره، لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم. فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه، من قتله أو قتل غيَّره بسببه، كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافاً لمن رأى الانكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى. قال النووي رحمه الله: هذا آخر كلام القاضي رحمه الله.
أليس لنا في مثل هذه عبرة واتعاظ رحمكم الله!
|