* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
من أكبر الذنوب التي قد تقترفها أيدي الناس أكلهم لأموال الغير بالباطل، لما في ذلك من اعتداء صارخ وظلم جارح تأبه النفوس الزكية، وترفضه الفطرة السوية، والظلم ظلمات يوم القيامة، وأموال الناس هي نار على من يأكلها، تشوى بها الأجساد والوجوه، ويصلون سقر بموجبها، ورغم كل الوعيد الذي سيحل بهؤلاء، فإن البعض يستمرئ ذلك ويستبيحه، ويتفنن فيه، خصوصاً أموال الضعفاء والفقراء واليتامى.
لكن كيف يأكل البعض أموال الناس؟
يشرح الشيخ عبدالله بن صالح القصير الداعية المعروف المناخ العام لأحوال الناس في زمننا هذا فيقول: طغى طلب المال وحب الدنيا، فانصرف كثير من الناس عن الآخرة، حتى أضاعوا الواجبات، وارتكبوا المحرمات، وجهلوا كثيراً من أحكام دينهم، وصارت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، فجاهروا بمعصية الله عزّ وجلّ، واستحلوا محارمه بكل الحيل، فأصبحوا على خطر من أن يتحقق فيهم قول الله في الذكر المبين:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} سورة الأنعام (44).
ويوضح الشيخ القصير: إن طلب الرزق والسعي لتحصيل المال أمر محمود طبعاً ومأمور به شرعاً، وإذا روعيت فيه الضوابط الشرعية، وأقيم على الموازين المرعية، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد أثنى الله على الذين يبتغون من فضله، وقرنهم في العديد من الأحكام بالذين يقاتلون في سبيله، وصح عن النبي _ صلى الله عليه وسلم - قوله: (إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وكل بيع مبرور)، وقوله: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم)، ولكن الله تعالى نهى في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - نهياً أكيداً، وتوعد وعداً شديداً الذين يأكلون أموالهم بينهم بالباطل، ويتخوضون في مال الله بغير حق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً {29} وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً {30}، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)، وقال عليه الصلاة والسلام في منى يوم النحر يوم الحج الأكبر، وهو أشرف جمع حضره- صلى الله عليه وسلم-: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فقرن حرمة مال المسلم وعرضه بحرمة دمه، زجراً لأهل الإسلام، وجعلها كحرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.
المكاسب المحرمة
ويعرف الشيخ القصير أكل أموال الناس بالباطل، والتخوض فيها بغير حق، فيقول: يشمل هذا كل المكاسب المحرمة والوسائل التي يحصل بها المال، وهي منهي عنها، ومن أعظمها المراباة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ . وصح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)، وقال: (هم في الإثم سواء) وقال- صلى الله عليه وسلم- أيضاً: (الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلة)، وذكر أهل العلم أن الربا من أعظم أسباب سوء الخاتمة.
مشيراً إلى أن أعظم أنواع الربا قلب الدين على المعسر، وهو ربا النسيئة هو ربا أهل الجاهلية، إذا حل أجل الدين قال الدائن للمدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن عجز المدين عن التسديد وهو القضاء قال له الدائن: أزيد في قدر الدين وأمد الأجل، ومن أنواع الدين القرض - الذي يسميه العامة السلف - بفائدة، وهو الذي تنتهجه البنوك الربوية اليوم، ويفعله بعض أهل الأموال الذين لا يخافون الله، حيث يقرضون ذوي الحاجات وأصحاب المصانع والحرف وأرباب التجارات مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية محددة بحسب المدة.
كذلك من أنواع الربا إيداع الناس أموالهم في البنوك مقابل أرباح ثابتة تدفعها البنوك لهم بنسبة معينة في المئة، ومثله بيع الذهب مع تفضيل أحد المبيعين بوزن أو قيمة، وبيع الذهب بالنقود من غير قبض في الحال، فكل هذه الصور وغيرها كثير مما جاء بشأنه الوعيد في الكتاب والسنة لمن تعاطاه، ولم يتب، بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
ويشير الشيخ القصير إلى ظاهرة أكل المال العام سواء كانت من الدولة أو من الناس، والتي تتمثل في أكل أموال الناس بالباطل، والتخوض في الأموال بغير حق، أخذها رشوة، أو عن طريق الاختلاس والنهبة، سواء من أموال الدولة أو عامة الناس، وقد صح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشي والرائش، وهو الساعي بينهما، وآخذ شيء من بيت مال المسلمين من غير وجه شرعي غلول، وقد قال تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة آل عمران (161)، ورأى النبي- صلى الله عليه وسلم- الغال يعذب بما غل يشتعل عليه ناراً.
كذلك من أكل أموال الناس بالباطل وأخذها من وجه حرام، أخذها عن طريق الغش في المعاملات كالبيع والشراء، والمقاولات والإيجارات، وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: (من غش فليس منا)، ومن الغش إخفاء عيوب السلع وحجبها عن المشترين، فقد مر النبي- صلى الله عليه وسلم- على صيرة طعام - أي كوم - تباع في السوق، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بلل، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء - يعني المطر - يا رسول الله، فقال: (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا).. ومن الغش تغرير البائع بالمشتري في قيمة السلعة، بحيث يبيعها عليه بأكثر من قيمتها الحقيقية، والمشتري لا يعلم، ومن ذلك الغش نقص السلع الموزونة أو المكيلة أو المذروعة أو المعدودة، أو المقدرة بالسنتميترات وبيعها على أنها وافية أو أنها أصلية، أو غير ذلك من الاحتيالات سواء فعل ذلك التاجر بنفسه أو اتفق مع الجهة المصدرة على أن تجعلها كذلك.
وكل هذه الصور وغيرها كثير من أنواع أكل أموال الناس بالباطل، وكسبها من وجه حرام، والتخوض في مال الله بغير حق، فمن فعل شيئاً من ذلك فهو عاص لله ورسوله، متعرض لما توعد الله به العصاة من أليم العذاب، وشديد العقاب.
القمار صورة مؤكدة
ويضيف الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحيى الأستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم رؤية جديدة حول أكل أموال الناس بالباطل، فيقول: قال الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} سورة البقرة (188)، وقال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (29) .
وفي هاتين الآيتين تحريم من الله تعالى لأكل مال الغير بغير حق، وقد ذكر المفسرون معنى ذلك أن: (من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل) تفسير القرطبي 2- 337، وذكر المفسرون أنواعاً مما يدخل في الأكل بالباطل، ذكروا ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، فمن ذلك: الربا، والقمار، والغش، والخداع، والغصب، وجحد الحق، وكل ما أخذ من المسلم بغير طيب نفس منه، ويدخل فيه أيضاً ما حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه كثمن الخمر، والخنزير، والبغاء، والمعازف، واللهو الباطل.
ويتوقف د. اليحيى عند نوع من أكل أموال الناس بالباطل، ألا وهو القمار، ويقول: إن القمار يتخذ صوراً متعددة في هذا العصر، فقد يكون قماراً صريحاً، وقد يكون قماراً متلبساً بثوب آخر، واسم مختلف، وقد يكون قماراً داخلاً في معاملات أخرى، أو ضمن منظومة اقتصادية تشمله وتشمل غيره، فأما النوع الأول: وهو الصريح باسمه وصورته كنوادي القمار ، فهو قليل- والحمد لله- في البلاد الإسلامية لمنافاته المباشرة لما هو معلوم من الدين بالضرورة ، كما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}، والميسر: هو القمار بأنواعه كما ثبت في تفسيره عند جمع من المفسرين، كابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والحسن، وطاووس، وعطاء، وغيرهم.
المسابقات
أما النوع الثاني فيستتر تحت اسم المسابقات الذي ينبغي التنبيه عليه لإخفائه على البعض، ومن صوره: المسابقات المتضمنة لدفع المتسابق مبلغاً من المال، قل أو كثر، ثم قد يكون فائزاً فيأخذ الجائزة التي تكون أكبر مما دفع في الغالب، أو يخسر فيفقد ما دفعه، وهذه الصورة لها نوعان:
أحدهما، المسابقة المعتمدة على الجهد المبذول من المتسابق سواء جهداً بدنياً، أو جهداً عقلياً، وهذا النوع قد جاء النص فيه، كما في حديث أبي هريرة- رضي الله- عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي، وصححه جماعة منهم ابن دقيق وابن القطان والألباني، ومعنى الخف، سباق الإبل والحافر سباق الخيل، والنصل المسابقة في الرماية، ويدخل فيها جميع أنواع الرماية القديمة والحديثة، وقد اقتصر كثير من العلماء على هذه الأنواع في الإباحة، وحرموا المسابقة في غيرها، وهي المسابقة التي يدفع فيها كل طرف مبلغاً من المال ومن فاز أخذه، وأما إن كان الدافع للمال واحداً منهم أو كان طرفاً ثالثاً غير المتسابقين، فهذه أيسر، وقد أباحها بعض العلماء، وألحق آخرون من أهل العلم بما جاء في النص ما كان في معناه من كل ما يعين على الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد نصر ابن القيم في كتاب الفروسية هذا القول، وجعل من باب أولى أن تباح المسابقة في العلم، بل يندب إليها.. وعُلم من هذا أن ما كان خارجاً عما ورد به النص، ولم يكن مثله في المعنى المشار إليه، وهو الإعانة على الجهاد، أو كان في العلم النافع فإنه محرم، وهو من الميسر والقمار.
النوع الثاني من المسابقات
ويضيف د. اليحيى: أما النوع الثاني من المسابقات الذي لم يكن معتمداً على الجهد البدني، أو العقلي، وإنما يعتمد على الحظ كالمسابقات المعتمدة على السحب دون أن تشتمل على جهد معين، فهذه قمار صريح، إذا كان المشترك يشترك بقسيمة الاشتراك، أما ما كان مجاناً فلا يدخل في القمار، ويدخل في هذا ما كان الاشتراك فيه عن طريق الاتصال الهاتفي الذي تكون فيه التكلفة محسوبة بالدقيقة على المتصل بأكثر من الاتصال العادي، بحيث يعود جزء من الرسوم إلى منظم المسابقة كبعض الصحف والمجلات والقنوات، وغيرها، فهذا قمار لأن المتصل ملزم بدفع هذه الرسوم، ويتجمع لدى منظم المسابقة من كل متصل عائد كبير من هذه الرسوم يتجاوز مبلغ الجائزة، فيبقى بعد ذلك الربح المقصود من هذه المسابقة، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد أفتت اللجنة الدائمة بتحريم هذه المسابقة، وأنها من القمار.
إلى أن هذا النوع من المسابقات، وهو ما لم يكن فيه جهد بدني أو عقلي قد يشتمل على شيء من الأسئلة لكنها غير مقصودة، إذ المقصود هو الاشتراك في المسابقة بدفع جزء من المال، سواء عن طريق الهاتف أو غيره، ولذا تجد أن الأسئلة تتمادى مع المتصل من أجل بقائه على الخط فترة أطول لزيادة الرسوم، وهذا كله تلاعب وأكل لأموال الناس بالباطل، واشتمالها على نوع من الجهد العقلي لا يخرجها عن القمار، لأنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون السؤال غير مقصود أصلاً، وهذا هو الغالب فلا أثر له، لأن العبرة في المعاملات بمقاصدها، وغالب ما فيها، وإما أن السؤال في غير علم نافع فهو من المسابقات التي لم يشملها النص، ولا معناه فتبقى على التحريم لأنها من المقامرة.
لا تصغر الحرام
وينبه د. اليحيى إلى سلوك ربما يقع فيه الكثيرون ممن يهتمون بالمسابقات على الهاتف، ويقول: يظن البعض أن المقدار اليسير لا يؤثر فتراه يقول: ماذا عليّ إذا اتصلت وبلغت كلفة المكالمة ريالين، أو ثلاثة، أو حتى خمسة أو عشرة ريالات، فإني إذا كسبت عوضت ذلك بأضعاف مضاعفة، وإن لم يحالفني الحظ، فالأمر يسير كأن الخمسة ريالات ضاعت مني، أو سرقت! والجواب عن ذلك: أن هذا المقياس مقياس خاطئ لا يعترف به في الإسلام، والركون إليه خطير، فإن المحرمات لا تقاس بمثل هذا، فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في الخمر - كما في الصحيح: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، واللفظ الآخر: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام)، ولما أتى الرجل الموكل ببستان للنبي- صلى الله عليه وسلم- بصاع من تمر جيد، وتبين للنبي- صلى الله عليه وسلم -أنه باع صاعين من تمر رديء بصاع تمر جيد قال له: (أوّه، عين الربا) متفق عليه، وما نسبة الصاع إلى بستان كبير؟! ولكنها القاعدة المطردة التي لا ينبغي التنازل عما تقتضيه ولو كان يسيراً، وكما قال ابن القيم- رحمه الله- في مثل هذه المسابقات: (وإذا تأملت أحوال هذه المغالبات رأيتها في ذلك كالخمر قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عما يحب الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله).
المسمى شطارة!
من جانبه يقول الشيخ صالح بن إبراهيم الدسيماني مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بنجران: إن الله تعالى جعل الحقوق بين العباد مبنية على المشاحة، فيوم القيامة يتمنى العبد أن يكون له حق، ولو عند أقرب قريب، بل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر إن المفلس الحقيقي هو الذي يجمع حسنات كثيرة في الدنيا من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، ثم توزع على خصومه ممن ظلمهم في الدنيا يوم القيامة حتى تنتهي هذه الحسنات، ثم يؤخذ من سيئاتهم، وذلك بعد أن تفنى حسناته وتطرح عليه، ثم يطرح في النار والعياذ بالله، ولقد حدد النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبة حجة الوداع أنواع الظلم التي تقع بين العباد، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم, قال: اللهم فاشهد)، متفق عليه، فهذه ثلاثة أشياء يقع فيها الظلم: الدماء، والأموال والأعراض.
والظلم في الأموال قد حرمه الله تعالى بجميع صوره وأشكاله، سواء كان بالغصب كأن يؤخذ بالقوة، أو السرقة، أو الاختطاف، أو عن طريق الخيانة، أو عن طريق الغش في البيع أو الشراء, أو عن طريق الكذب والتدليس في السلع، أو بأي نوع من الأنواع التي مع الأسف أصبحت اليوم تسمى بغير اسمها، فهي شطارة في التجارة أو غيرها من الأسماء، وأصبح الكثير من الناس لا يتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، وعلى هذا فالذين يبيعون بالغش، فإن هذا المال الذي يدخل عليهم حرام وسحت ونار، وهم بذلك يرتكبون محظورين: الأول العدوان على إخوانهم بأخذ أموالهم بغير حق، والثاني: ينالون تبرؤ النبي- صلى الله عليه وسلم-، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم، ومن ذلك أخذ الأراضي بالقوة، ووضع اليد، ومن ذلك حجد الدين أو المماطلة في السداد، لأن مطل الغني ظلم يحل ماله وعرضه، وكذلك أخذ الأموال بنية عدم ردها لصاحبها، فقد دعا عليه النبي بأن يتلفه الله تعالى.
ومن صور أكل الأموال بالباطل أن يدعي الإنسان ما ليس له، ويقيم على ذلك البنية والشهود فيحكم له بذلك الشيء، ولقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له وإنما أقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقتطع له جمرة من نار فليستقلل أو ليستكثر)، متفق عليه، فحكم القاضي لا يبيح للمسلم أن يأكل مالاً حراماً، بل إن الإنسان إذا خاصم، وهو يعلم أنه على باطل، فإنه لا يزال في سخط الله حتى ينزع.
ويضيف الشيخ الدسيماني: ومن صور الظلم في الأموال أيضاً مال اليتيم، فإن الذي يأكل مال اليتيم إنما يأكل ناراً، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} سورة النساء (10)، فعلى المسلم أن يتقي الله في مال اليتيم، وكذلك مال المرأة فإنها ضعيفة، وقد خرج النبي حقها وحق اليتيم وأخبر أنهما ضعيفان، وهناك في بعض المجتمعات يحرمون المرأة من حقها الشرعي في الإرث، وهذا من أعظم الظلم حتى إذا ذهبت إلى المحاكم تطالب بحقها، قد يصل الأمر إلى أن يتبرأ منها وليها عياذاً بالله من ذلك، وعلى جميع المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم لرد الظالم وردعه، فإن ذلك من نصرته كما أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فإن نصرة الظالم تكون بمنعه وحجزه عن الظلم والأخذ على يده وأطره على الحق أطراً.
|