اعتدنا أن نقرأ في بعض الكتابات أو نسمع في بعض المنتديات عن اتهام مؤرخي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -تلميحاً أو تصريحاً - بالمبالغة في وصف الأوضاع الدينية بالسوء قبل دعوة الشيخ، وأنها بعيدة عن الواقع في ذلك الزمان، بل وصل ببعضهم إلى اتهام الشيخ نفسه بالمبالغة عند وصفه لتلك الأوضاع في رسائله وكتبه.
ونحن نعلم أن هذا الاتهام قديم ظهر بظهور دعوة الشيخ في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري ثم استمر حتى أيامنا هذه التي تتعرض فيها هذه الدعوة لهجوم ظالم على كافة المستويات بعضه - يا للأسف - ممن عاشوا في ظلها أو ممن يعدون من أبنائها.
وإذا أحسنا الظن بمن يوردون هذا الاتهام فإنهم إما قوم لا يدركون المفهوم الشرعي الصحيح للشرك أو الكفر، أو أنهم قوم قد أدركوا المفهوم الشرعي الصحيح للشرك أو الكفر ولكنهم وهم في عصرنا هذا لم يتصوروا حقيقة الجهل الذي كان يطبق على العالم الإسلامي عامة والجزيرة العربية خاصة، بل بلاد نجد وما حولها على وجه الخصوص، فالناس عصر ذاك في سذاجة عقولهم، وسطحية تفكيرهم، وتقادم عهدهم بالعلم - وأكثرهم من أهل البادية - كانوا بيئة صالحة لتقبل الخرافة والاعتقادات المنحرفة، وقس على ذلك بما نراه الآن من انتشار للخرافات والأفكار المنحرفة في بيئات إسلامية عديدة، وأعتبر أيضاً بما يحصل من اعتقاد بالسحر والكهانة، وإيمان بالأسطورة والخرافة في وسط مجتمعات ما يسمى بالعالم المتحضر ممن يعلمون ظاهراً في الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون.
إننا إذا أوردنا ما قاله مؤرخو الدعوة الذين فهموها واستوعبوا منهجها في وصف أوضاع الجزيرة العربية عند ظهور الدعوة قيل إنهم متعصبون، بعيدون عن الموضوعية، مبالغون أكثر من اللازم. ولكن ماذا سيقال في كلام رجل لم يسمع بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ؟ قدم الحجاز للحج وسجل ما رآه وعايشه من مشاهد شركية تمارس من قبل أهل البلاد أنفسهم - فضلاً عن القادمين - تقرباً إلى الله فيما زعموا، وقد كان ذلك في سنة 1081هـ - 1670م، أي قبل أن يولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بأربع وثلاثين سنة، وقبل أن تظهر دعوته بحوالي مائة سنة، وفي بلد مثل الحجاز الذي ينتظر أن يكون أكثر أقاليم الجزيرة العربية تحضراً وعلماً. هذا الحاج تركي اسمه (أوليا جلبي)، ولم يكن من العامة الذين يهرفون بما لا يعرفون، ولا يؤبه بما يقولون، بل كان من الطبقة المتعلمة، حفظ القرآن في صغره، وواصل تعليمه حتى تمكن من علوم وفنون كثيرة، وأتقن - بجانب لغته التركية - اللغة الفارسية واللغة العربية، وقد أولع بالرحلات، فرحل إلى بلاد كثيرة سواء في داخل العالم الإسلامي أو خارجه، وقد كان في بعضها مرافقاً لحملات عسكرية تركية من ناحية، أو مشاركاً في وفود دبلوماسية من ناحية أخرى، وقد دون رحلاته تلك، فجاءت في عشرة مجلدات، وكان من أواخر رحلاته رحلته إلى الحج سنة 1081هـ التي أشرنا إليها آنفاً، وقد طبعت بعنوان (الرحلة الحجازية)، وقد ترجمها عن التركية وقدم لها الأساذ الدكتور الصفصافي أحمد المرسى.
ونحن سننقل فيما يلي بعض ما ورد في الكتاب من انحرافات وتجاوزات بعيدة عن العقيدة الصحيحة مما دونه هذا الحاج، سواء شاهده بعينه في أرض الحجاز أو زاوله بنفسه هناك مع غيره من الأهالي والقادمين، فمما قاله عن قبر حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنها (أما مزار حمزة فعلى بعد مسيرة ساعة واحدة من المدينة، وهو على شكل قبة.. وتحت هذه القبة.. يرقد رضي الله عنه داخل صندوق رباعي الأضلاع، والصندوق داخل مقصورة رباعية أيضاً، من يحمل سيفاً فعليه أن يضعه داخل صندوق سيدنا حمزة، وبعد فترة يخرجه وسط تكبيرات حارسي المقبرة، ويتمنطقه وسط تهليلاتهم، فيكسب ثواب الغزوة) ( الرحلة الحجازية، ص 156). فانظر كيف يمارس مثل هذا الدجل عند قبر هذا الصحابي الجليل، فبمجرد أن تقوم بهذا العمل تكسب أجر غزوة أحد!. ولزيارة مقبرة الصحابة هناك شرط (أن تكون وقت السحر، وأن يكون الزائر عاري الرأس،حافي القدمين) (ص 156- 157). كما أنه يقام في هذا المكان في كل سنة مراسم المولد، ويشتد الوجد ببعضهم حتى تخرج روحه من جسده فيدفن في ذلك المكان، يقول المؤلف (وخلال شهري محرم وصفر من كل عام يُقرأ المولد الشريف هنا، وعند مقبرة سيدنا حمزة يكتظ المكان بالمؤمنين، وتجيش نفوس الحاضرين في كل عام، تحت تأثير الإنشاد الديني والدعاء والابتهالات التي تتردد أصداؤها في المكان كله لدرجة أن البعض تخور قواه، ويلقى ربه من أثر الوجد الذي تفعم به النفوس، ويعم المكان، فيدفن حيث يكون في صحبة الشهداء) (ص 158). وفي مكة يمارس عند أحد القبور شيء من مظاهر الشرك والخرافة، يقول (أوليا جلبي) عما يسمونه قبر صفيان الصوري إن (من يصاب بألم في معدته فعليه أن يربط صرة عليها وبها قليل من تراب هذا القبر، وبأمر الله يتم الشفاء) (ص 285). وفي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تمارس أنواع من البدع ، يقول المؤلف عن نفسه (ثم دلفت إلى المسجد النبوي من باب السلام، ثم بدأت أزحف وسط الحشد الغفير حتى وصلت إلى المقصورة النبوية فلثمتها، ثم ركعت على ركبتي محيياً (السلام عليك يا رسول الله) (ص 112). ولقد أشار بعد ذلك إلى بدعة كان أهل المدينة يفعلونها عند قبر فاطمة رضي الله عنها وذلك في قوله (ومن عادات أهل المدينة ما إن يولد لأحدهم بنت حتى يحضروها إلى الحرم النبوي الشريف، ويقفوا بها ساعة أمام مرقدها الطاهر) (ص 127).
هذا شيء مما جاء عن الأوضاع الدينية في الحجاز في كتاب (الرحلة الحجازية) لمؤلفه أوليا جلبي، حيث صور جانباً من الانحرافات العقدية، والأمور البدعية الموجودة في هذه البلاد.
وننبه هنا إلى أن ما أورده أوليا جلبي ذو أهمية في هذا الباب من حيث كونه يقدم شهادة تتميز بالمصداقية عن واقع الجزيرة العربية الديني، فهو أولاً كما سبق من الطبقة المتعلمة، ثم إنه ثانياً حينما كتب ما كتب عن الحجاز كان قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولم يكن واقعاً تحت تأثير اتجاه معين، أو مدفوعاً بمصالح ذاتية أو مذهبية، ثم إن ما دونه ثالثاً قد جاء عرضاً في وصف رحلته، فهو لم يكن يقصد تتبع الأوضاع الدينية في الحجاز، إذ سجل ما شاهده ومارسه في الحجاز عند أدائه للحج، ومن المؤكد أنه ترك الكثير في هذا الميدان.
نعود ونقول إذا كانت مثل هذه المظاهر التي أوردها (أوليا جلبي) في رحلته قد وقعت زمنذاك في الحجاز الأكثر تحضراً وعناية بالعلم فهل يستغرب أن يحصل مثلها، بل أكثر منها وأطم في بلاد مثل نجد التي كان الجهل قد خيم عليها، وهل يسوغ لبعضهم بعد أن يقرأ ما جاء في رحلة أوليا جلبي أن يسخر، بله يشكك في كلام ابن بشر وابن غنام وعلماء الدعوة حينما يصفون أوضاع الناس الدينية وقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟.
( * ) لأستاذ المساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم
com. mihkhial@hotmail |