حركت قضية المذيعة رانيا الباز المياه الراكدة في قضية العنف الذي يمارس ضد المرأة في مجتمعنا، وأطلقت النار في وجوهنا كي نواجه إشكالات القضايا (المسكوت عنها) والتي نفضل أن نكون نعاميين عندما نصطدم بتعقيداتها، ونصر على سلامة مجتمعاتنا منها وخلوها من بشاعة آثارها. قضية العنف الذي يتعرض له كل من المرأة والطفل، قضية شائكة ومعقدة وعميقة البعد والأثر في التكوين النفسي للأسرة خاصة، وبالتالي في تشكيل الخارطة النفسية للمجتمع برمته. وهي واحدة من عدة قضايا تصنف ضمن دائرة (التابو) والتي تنصب حولها الأسلاك الشائكة، وتوضع أمامها الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، وغالباً ما يدير المجتمع كتفيه لهذه المشاكل مدعياً البراءة التامة منها، وربما يرفض حتى الاعتراف بوجود حالات فردية وشاذة بين شرائحه من الممكن أن ترتكب في حقها هذه الجرائم.
ولذلك يجب أن تخضع هذه القضية لدراسات مستفيضة، يحاول فيها المختصون إيجاد التدابير اللازمة كي نحد منها، حتى نساعد المتعرضين لقسوتها أن يخرجوا من دائرة تأثيرها عليهم، ومن الآثار النفسية المترتبة عليها، والتي قد توشم نفوسهم إلى الأبد ودائماً لا يؤدي تجاهل هذه المشاكل إلا إلى تفاقمها، واستفحالها، وتشعبها في تربة المجتمع، ولذلك يجب أن نزيل الأقنعة ونكشف الستائر الحاجبة للحقائق، ونواجه أمراضنا ونعترف بها حتى نستطيع التخلص منها.
والحقيقة أن هناك توجهاً حديثاً في الصحافة للاعتراف بهذه الأوبئة الاجتماعية، ومن دون شك هذا دليل على الوصول لقناعة جديدة تفيد بوجوب مواجهة هذه المشاكل، والتوصل إلى أن الطريق الوحيد للقضاء عليها هو فتح ملفاتها ومناقشة اشكالايتها وتفاصيلها.
فلم نكن نقرأ في السابق مثلاً خبراً كهذا الذي نشرته إحدى الصحف: (أصدرت محاكم الشرقية أحكاماً بالسجن والغرامة على أزواج مدانين بإيذاء زوجاتهم بدنياً وذلك بعد ثبوت التهمة عليهم وكانت 300 سيدة قد رفعن دعاوى ضد أزواجهن أمام محاكم المنطقة الشرقية بتهمة الإساءة لهن جسدياً بالضرب المبرح لأسباب واهية وتحكي إحدى السيدات مأساتها مع زوجها فتقول: كان يكويني بدون أي سبب بالسكين بعد تسخينها في النار حتى يحمر طرفها مما أدى إلى تشويه جسدي وسبب لي عاهة مستديمة! كما تضمن نص دعوى أخرى أن الزوج كان يؤذي أطفاله الأربعة حيث يقوم بربطهم بأحد أعمدة المنزل الخارجية ويضربهم بشكل هستيري عقب كل مشكلة زوجية وقد قام هذا الزوج بإيذاء زوجته بعصا غليظة مما سبب لها كسوراً مضاعفة).
وعندما نحاول أن نبحث في مشكلة ما أو نسلط الضوء على أبعادها، يتحتم علينا دائماً أن نبحث عن جذور هذه المشكلة وأسباب تكونها، قبل أن نحاول بتر أطرافها أو مسح نتوءاتها، لأن القضاء على المرض لا يتم إلا بمحاربة أسبابه. ومن تابع ذلك اللقاء الحزين، والرمادي التفاصيل الذي أجرته إحدى الفضائيات مع المذيعة الشابة رانيا، يستطيع أن يستشعر وبقوة وجود تلك التربة المخصبة لتقبل الظلم والاستبداد في نفسها، والتي لابد أن الثقافة السائدة قد ساهمت في خلقها وتكوينها في شخصية المرأة السعودية خاصة والعربية عامة، ومن ثم تمررها المرأة لمن تقوم بتربيتهم وتنشئتهم، فتكون المحصلة مجتمعاً سهل الانقياد، مستلب الإرادة، يرفع يديه استسلاماً في وجه الظلم والاستبداد، غير قادر على رفضه والوقوف صلباً وصلداً في مواجهته.
وقد قال مالك بن نبي المفكر الإسلامي الجزائري المعروف انه لا يمكن أن يكون هناك استعمار إذا لم تكن هناك قابلية له كما أنه لا يمكن ان يكون هناك ظلم إلا إذا وجدت النفسية المجهدة والهشة التي لديها الاستعداد لتقبله. فالخطاب الثقافي الديني عادة يحاول التركيز على الأجر والثواب الذي يناله المظلوم، مشجعاً على الصبر وداعماً لمن يلوذ به، وممتدحاً لذلك الشخص الذي يستطيع أن يستمر في حياة حتى لو كان فيها ظلم فاحش يقع عليه وعادة يحدث خلط كبير ما بين الصبر المحمود والذي يكون عادة على مصائب الدنيا التي لا يد للإنسان فيها، وما بين الصبر على أذى يمارسه البشر على بعضهم بعضا، وفيه تمتهن كرامة الإنسان بينما يكون قادراً على التملص من شدة قبضته والتخلص منه نهائياً، وفي هذه الحالة بالطبع يكون الصبر أمراً مكروهاً ومذموماً. فقبول الظلم والاستمرار في حياة تضطهد كرامة الفرد وإنسانيته له الكثير من الآثار النفسية السلبية على الإنسان ومن الممكن أن يجعله فريسة لكراهية نفسه وحياته قبل أن يكره جلاده ومن يمارس الظلم بحقه. بينما يعتم الخطاب نفسه على آيات وأحاديث تحفز المسلم على رفض الظلم واستهجانه، وتثويره كي يرفض الاستمرار في وضع فيه امتهان لكرامته وكبريائه كإنسان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا)، ولكن الخطاب يغفل أحاديث كهذه ويمر عليها مرور الكرام.
وقضية العنف الجسدي تقودنا إلى قضية أخرى شائكة وهي قضية التحرش الجنسي، وهي من تلك القضايا التي يبرأ المجتمع نفسه من تهمتها، رغم وجودها وتسجيل حالات كثيرة منها. ولأنها من تلك القضايا المسكوت عنها، والتي يتعامل معها المجتمع بسرية تامة وتعتيم شديد، لا يعرف المتعرض لها كيفية التعامل معها، وغالباً ما تكون ردود أفعاله بطيئة وغير متوافقة مع فظاعة وبشاعة ما يتعرض له، بل قد لا تدرك الفتاة أو السيدة انها تعرضت لهذا النوع من التحرش إلا بعد أن تكون قد فاتت الفرصة في الرد عليه وبعد أن يكون قد عاث في نفسها فساداً وتشويهاً.
وفي أمريكا تقوم المدارس بحملات توعية للأطفال، كما تقوم القنوات الحكومية بعرض برامج تثقيفية، تعلمهم فيها كيفية التعامل مع التحرش الجنسي، لأن الطفل غالباً ما يشعر أنه مسؤول بشكل أو بآخر عن هذا الفعل، أو على الأقل شريك فيه فيضطر للسكوت والامتثال لمرتكب الجريمة.
كما أن هناك خطاً ساخناً (HOT LINE) مفتوحاً على مدار الأربع وعشرين ساعة، ورقمه ينشر عادة في جميع الأماكن العامة والمدارس والأسواق، وعلى الخط دائماً يتواجد المختصون النفسيون، حتى يتمكن الطفل أو المتعرض للإيذاء الجسدي أو الجنسي من الشكوى والحديث والاستشارة والحصول على الدعم المادي والنفسي كي يواجه ذلك النوع من الإيذاء.
وأود هنا أن أقترح على سعادة الدكتور عبدالله العبيد رئيس لجنة حقوق الإنسان وعضو مجلس الشورى، إنشاء مثل هذا الخط الساخن في الجمعية، حتى يتم تمكين الأشخاص الذين يتعرضون للإيذاء الجسدي أو التحرش الجنسي من الحصول على المساعدة والدعم والنصيحة، والطرق الصحيحة لمواجهة هذا النوع من الاستبداد وتوفير المساعدة النفسية في حالة وقوع الإيذاء ومحاولة محو آثاره الغاشمة، وتوفير التوعية اللازمة بحقوق الإنسان، واستنهاض الهمم لرفض أي امتهان لكرامة الإنسان وبشريته.. فمن دون أدنى شك أن الإنسان هو الثروة الحقيقية للأوطان والاستثمار الذي لا ينضب معينه.
|