لم تكن تلك الليلة التي انقطع فيها التيار الكهربائي مصدر ازعاج له حيث يعيش في شقته المتهالكة التي يعرف سراديبها ودواليبها مثلما تعرف يده فمه..! فتش عن الولاعة في جيبه.. تذكر أنها بجانب الموقد الصغير.. على غير عادة لم أقرأ اعلان شركة الكهرباء عن هذا الانقطاع.. ربما الحدث طارئ.. ربما..؟
بين فلول الظلام الذي أطبق عليه فجأة.. وقف يتأمل النور عبر ثقوب باب الغرفة الموصل إلى سطح العمارة التي يسكنها.. تذكر تلك الغرفة المظلمة التي يحملها يبن جوانحه التي كم كان يتوق للدخول إليها والتفتيش في خباياها.. لام في نسيانها مشاغل الحياة التي كانت كفيلة بأن ينسى نفسه..! فكيف التفكير في تلك الغرفة المظلمة...!!
جلس يستعرض مسيرة الحياة التي يرى أعوامها الأربعين كيف مرت..! الأبواب التي طرقها.. المعاناة التي يحملها أين ما ذهب..!! يرى الحياة سوداء قاتمة.. ما عدا ثوبه الأبيض الذي يلبسه أمام الناس..!
أسند رأسه إلى الحائط المقابل لباب الغرفة بعد أن قرر أن يلج تلك الغرفة المظلمة..!
في حلكة الظلام تشاطره الهواجس في تمضية الوقت وهو يطالع خطوط النور من ثقوب الباب.. صنع نفسه وقد مالت الدنيا معه رجل عظيم..! الكل يطلب وده..! يقابل الناس حسبما تحفل به ملفاتهم داخل الغرفة المظلمة..
وقف له الجميع فيطلب من هذا..! ويستهزئ بذلك.. يتوعد آخر.. مر أمامه شريط معاناته في الأيام الخالية.. وقف له ذلك المغرور الذي طرده من مكتبه وهو ذليل وعندما هم بضربه.. قام بسرعة وهو خائف بعد أن سمع تساقط الأواني مع ادراكه أنه وحيد في الغرفة..!!
نظر حوله لعله يرى شيئاً..؟ الحمد لله.. قالها ويده على قلبه..!! أنت..! وعيناه ترقبان المكان.. لقد لمح القطة وهي تحاول الخروج.. تذكر أنه نسي الباب مفتوحاً هذا الصباح.., قادته رجلاه إلى المطبخ ليبحث عن شمعة تنير الظلام.. امتدت يده إلى أحد الأرفف وسحب شمعة يعلوها الغبار.. بحث عن الولاعة..!!
عاد إل مكانه أمام الباب.. وقف حائراً أمام العوائق التي تمنعه من الدخول إلى الغرفة المظلمة.. أوقد الشمعة..!
وعندما هم بنسيان الغرفة المظلمة لاح له وجه أبيه الراحل.. فأخرج زفرة من صدره وقال رحمك الله يا أبي.. لا أدري هل ضل القرش طريقه إليك..!! أم أنك لم تسعَ في هذه الحياة مثل الآخرين..؟
استجمع بقايا قوته تذكر أنه يكنى (ذيب الليل).. سبحان مقسم الأرزاق.. عندما هم بفتح باب الغرفة.. لاح له وجه أبيه وهو ينفخ لكي يطفئ الشمعة.. صرخ..! كف يا أبي..!!
ليتك تدرك أن كفنك تبرع به الأخيار..؟ اختفت صورة والده والشمعة ما زالت مشتعلة.. تحسس الباب..!! بحث عن الرتاج القابع تحت غبار النسيان..!
دلف إلى الغرفة والشمعة في يده تلعب بها الرياح.. صدى الماضي يخيفه ليمنعه من الدخول.. فكر بالرجوع عن البحث في ملفات الحياة البائسة التي عاشها ولكن..!!
نظرته إلى نفسه بددت جميع المخاوف.. يجب أن أبحث عن الخلل..! لقد جاوزت الأربعين.. وأنا مكانك سر..!!
على ضوء الشمعة الخافت وقعت يده على ملف عتيق.., قلب الملف بين يديه لعله يجد عنواناً أو اسماً.. طبقات الغبار تعلو هذا الملف..! نفخ بقوة تطاير الغبار على وجهه.. كادت الشمعة تنطفئ.. لمح بعض الخطوط الدقيقة في الزاوية العلوية.. حاول قراءتها.. وجد صعوبة في فك تلك الطلاسم.. وأخيراً نجح.. نعم إنه ملفك يا أبي..؟؟؟
تلك التربية التي قومتني عليها وغياب توجيهك والمعاملة التي ألقاها منك.. كانت هي المسار والمحرر الذي وصلت إليه الآن.. لقد أفضت إلى حطام رجل.. لا ألومك.. إنها الأقدار.. جارنا أبو فهد نفس مستوى التعليم لك يا أبي ومع ذلك.. اللهم لا حسد..!!
سبحت به الذاكرة بعيداً في دهاليز الغرفة المظلمة.. تداخلت الوجوه.. يظهر أمام عينيه جارهم صاحب الفضل الأكبر في زرع الحقد في قلب أبيه والوشاية عليه دائماً.. التي كانت سبباً لقيام العصا بجولات على ظهره.. رأى وجه أمه.. حاول أن يستزيد من صبرها.. ولكن!! الخوف من أبيه جعلت الرحمة تخرج من قلبه لحالتها.. فترحم عليها..
رجع لتلك الظروف التي عاشها.. مختلفة حتى في المدرسة..؟ سمع أولئك الأطفال الأشقياء وهم ينادونه.. (الجلاد.. ذيب الليل.. النكبة.. البليد.. الكسلان..) لماذا..؟
هل كنت حقاً كما يصفونني.. أم..! نعم لقد كان أبي لا يعرف للمدرسة طريقاً.. هو لا يضاحكهم ولا ينافقهم.. هل أولئك مدرسون..؟ لا.. بل رعاة.. (...) لم يكونوا على مستوى من الرقي والعطف والرحمة حينما كانت عقولنا وأجسامنا غضة.. لم يشاركوا الأطفال أحلامهم.. لم يتحسسوا مواطن الإبداع لديهم.. نعم كانوا جهلاء.. التربية على نغمات العصي.. ورفس بالأرجل.. وكذلك.
أخذ يتحسس أذنه التي تغير شكلها لكثرة ما نامت في يد ذلك المعلم.. ارتبط شد أذنه بحصة التاريخ حتى كره هذه المادة..!!
نعم أكره التاريخ إلى الآن..! وإلا ما معنى أن تظل الغرفة مغلقة حتى هذه اللحظة التي انقطع فيها التيار.. لماذا لا أعود وأصحح المسار قبل فوات الأوان..!
صرخ فجأة..!! لقد ذابت الشمعة على يده.. ونسي الغرفة المظلمة.. تمت
|