لمّا كان باب الفتنة قد انكسر، بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وأصبح على مصراعيه، كما أخبر بذلك الهادي البشير، فإنه قد أصبح مشرعاً ومهيأ للدخول معه، لكل ناعق، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد حرص على أمّته، خوفاً عليهم من مداخل الشرّ فقال: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، كما أهلكت الأمم السابقة، فأعطانيها، وسألت ربي ألا يسلّط عليهم عدواً من غير أنفسهم فأعطانيها، وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعت إياها)، أورده ابن الأثير في جامع الأصول عن مالك في الموطأ (198:9).
لذا فإن العدو والحاقد المتربص، لن يلج ذلك الباب المنكسر، إلا على أكتاف من يدّعون الإسلام سواء كانوا منافقين، أو باطنيين، أو علمانيين، أو غيرهم ممن في قلبه مرض، بأي اسم وتحت أي شعار.
ولما كان بنو أمية، وخاصّة في عهد الحجاج بن يوسف، قد حرصوا على تتبع الخوارج، الذين كشفهم علي بن أبي طالب، ومن ثم التضييق عليهم، فإن الخوارج وغيرهم، بدأوا يأخذون مسميات جديدة، وإظهار بدعهم التي لم يعرف منها إلا النزر اليسير مثل: التكفير وإنكار رؤية الله سبحانه في الآخرة، والحكم على صاحب الكبيرة بأنه خالد مخلّد في النار، وأنها لا تقبل توبته، حيث ضيقوا على المسلمين أموراً وسعها الله سبحانه رحمة بعباده.
ثم كان للقيادة في العصر العباسي دور في ملاحقة الخوارج، فاضطر من لم يهرب، ومن ليس عنده قدرة على مصادمة القيادة إلى الاختفاء والتّستر، واغتنام الفرص لإثارة الزعازع، حيث برزت لهؤلاء قيادات فكرية رغبة في إثارة الفتنة، والتحريض ضد الدولة العباسية وقيادتها، فوجدت هذه الأمور صدى في القلوب المريضة، وما أكثرها في كل زمان ومكان: إمّا بعداء شخصيّ، أو بضعف الوازع الإيماني، ورغبة في زعزعة الدين من القلوب، أو بإثارة الشرّ، من أجل الإضرار والفساد، وغير ذلك من المسببات التي تتجدد في النفوس، ويغذّيها الحسد في كل زمن لغايات لا تمت للإسلام بصلة.
وأكثر هذه الأمور يحركها بخفاء تأييداً وحقداً: اليهود وعناصر من الأمم المغلوبة، آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، فاتسع نطاق الباطنية، وبرز دعاتها ظاهرهم الإسلام، وباطنهم العداء لدين الله، ومظاهرة أهله، فصاروا يدخلون من منافذ عديدة، ويتلقّف دعوتهم الجهّال، وأهل الأهواء، والغايات والحاقدون، ممن كانوا على باطل، ويريدون تحقيق مآربهم بترسيخ ما يدعون إليه من عقيدة، ولا يمنعهم ذلك من مدّ الأيدي للأعداء، والتعاون معهم في الخفاء لخدمة غايتهم، وإلباً على المسلمين، وبعضهم يريد بفكره خدمة مبادئ وعقائد نشأ عليها في محيطه الأول، وعصبية لأمته وما كانت عليه، وخاصة منهم الفرس الذين أدركتهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ما مزق كسرى رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي دعاه فيها للإسلام، وقال: كيف يتجرأ هذا الأعرابي يعني رسول الله بأن يقدّم اسمه على اسمي، ولم يعظمني كما تعظم الملوك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه تمزيق رسالته التي يدعوه فيها للإسلام: (مزّق الله ملكه، كما مزّق كتابي).
وقال أيضاً: (إذا مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا مات قيصر فلا قيصر بعده، وإذا مات المقوقس مصر فلا مقوقس بعده). ذلك أن هؤلاء يريدون الحمية لباطلهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، ومن سار على دربهم بإحسان، يريدون نشر دين الله، وما عند الله من الأجر في الآخرة، طاعة لله، واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت الرؤوس الفكرية التي برزت كثيرة، يجد تفاصيلها وأقوالهم ودعواتهم، من يقرأ كتابي: الملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، وغيرهما. ونموذج لذلك فقط، وليس من سبيل الاستقصاء:
فإن الذي سنذكره باختصار: رجلين وأثرهما: القدّاح، والحلاّج، ليفرق القارئ كيف تتولّد هذه الأفكار وأهدافها.
قال ابن عذاري المراكشي في تاريخه: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب في حديثه عن الدولة العبيدية (الفاطمّية):
أن أول من قام بها عبيد الله ثم ذريّته في المغرب: فجّده عبدالله بن ميمون الأهوازي القداح، فادّعى عبدالله لنفسه النبوة، وقد كان اسمه سعيد وكان مطلوباً من الحسين بن أحمد، وتسمّى عبيدالله ليخفى أمره، ولما وصل إلى رقّاده - لعنه الله - أرسل من أتاه بعالمين كبيرين من القيروان، فلما وصلا إليه كان عن يمينه أبو عبدالله الشيعي، وعن يساره أخوه العباس فقال لهما: اشهدا أن هذا رسول الله فرفضا وأقسما على كذبه، فأمر عبيدالله بذبحهما، وربطهما في أذناب الخيل (282:1 - 283).
وادّعى النسب الكاذب للنبي صلى الله عليه وسلم، بفاطمة الزهراء.. وقد قال غيره: إن أصلهم من يهود اليمن، واتصلوا بعبيد الله القداح الذي صحب قرمطاً ودعاه إلى مذهبه فطاوعه في الكفر واشتهر استخفافهم بالدين وسفك الدماء (281:1).
ومن أحداث 201هـ وما بعدها ذكر أن عبيدالله أخرج حباسه بن يوسف قائده بالجيوش نحو المشرق، فكفّر الناس وقتل خلقاً كثيراً، وجمع الجثث وجعل عليها كرسياً وجلس فوقه، ثم أدخل أهل البلد فهالهم، وطلب عنهم مائة ألف مثقال، إن لم تحضر قتلتكم أجمعين، فأحضروها له، ومرّ برقة، وأخذ جميع أموالهم وباع نساءهم وقتل مجموعة من أهلها (170:1).
وذكر منهم من ادّعى أنه ابن الله، ومن أمر المؤذن أن يقول: أشهد أن فلاناً يعني نفسه رسول الله، وكلما رأوا الناس قد ضجّوا طمأنوهم ظاهراً ولكنهم على كفرهم وتكفيرهم وقتلهم من يخالفهم حتى أرهبوا الناس. ولما أخذ القرامطة الحجر الأسود, ورأوا ضجر الناس مع أفاعيلهم في المسجد الحرام أرسلوا لهم من يأمرهم بإعادته، بحجة أنكم أسأتم إلى دعوتنا السرّية فأعادوه (ينظر من ص 164 - 268).
- أما الآخر فهو الحلاّج الذي كان في العصر العباسي يعد الأول بما يقرب من 200 سنة، وهو من أصل فارسي أقام بالأهواز وكان متلّوناً في مذهبه فمرة سني مع السنة، ومرّة رافضيّ مع الرافضة، ومرّة معتزليّ مع المعتزلة، ومرّة صوفي مع الصوفية، ومرة فاسق مع الفسقة - كما قال ابن كثير في تاريخه- وكان يستهزي بالقرآن الكريم، وإذا قرئ عليه يقول: أنا أحسن القول بمثل هذا..
وقد ضلّل الناس، وأخذ عنه كثير من أهل الفرق الفاسدة، وخاصة العوامّ، حتى بلغ به الأمر ادّعاء النبوة، ثم أنه الربّ تعالى سبحانه عن الشرّيك، كما تبنى الحلول، يقول ابن كثير في تاريخه، بالسند إلى أبي بكر بن ممشاز قال: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة لا يفارقها ليلاً ولا نهاراً، فأنكروا حله وفتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتاباً للحلاّج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان: يدعوه إلى الضلالة والإيمان به، فأحضر الحلاج وقيل له: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية والألوهية؟ فقال: لا ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة؟ فحكم عليه بالكفر بعد أن بيّن من كان يوافقه على هذا الاعتقاد، وهم فيما بعد صارت تنسب إليهم فرق من طوائف الضلال.
وقد توسع في ذكر أباطيل وكذب الحلاج، وأنه يدعي السحر ولا يظهره، ومن كشفه فيه، أو في تحايله وإدعائه علم الغيب، فإنه يتهدده إن أفشى شيئاً من أمره، فإنه سيعلم ذلك ويرسل إليه من يقتله، وهو على فراشه، وذكر سيرته، وأباطيله وتأثيره: كل من الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن كثير في البداية والنهاية، والطبري وابن الأثير في تاريخهما، وابن خلكان في وفيات الأعيان.. مما يبرهن على أن أصحاب الفكر الباطل يكون لهم دعاة ينشرون باطلهم ورغبتهم في بث الفساد في المجتمع، ولا ينكشف أمرهم إلا بعد تركهم جذوراً سيئة في المجتمع، وأفراخاً يحملون فكرهم ويبثونه حسب أهوائهم لأنهم أعداء لله وللأمة.
كشف أباطيل الحلاج وقتله:
قال الخطيب البغدادي في تاريخه: وظهر أمر رجل يقال له الحلاج: الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به، وذلك في وزارة علي بن عيسى، وذُكر عنه ضروب من الزندقة، ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادّعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه، وأنهى خبره إلى السلطان - يعنى الخليفة المقتدر بالله فلم يقرّ بما رمي به من ذلك، فعاقبه وصلبه حيّاً أياماً متوالية في رحبه الجسر، في كل يوم غدوة، وينادي عليه مما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس، فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفاً من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم.
إلى أن حبس آخر حبسة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمانه، وموّه عليهم واستمالهم بضروب الحيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه، ويرفهّونه بالمآكل المطيّبة، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادّعى الربوبية، وسُعي بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم، ووُجدت عند بعضهم كتب تدلّ على تصديق ما ذكر عنه، وأقرّ بعضهم بذلك بلسانه وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله، فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك أمور عظيمة طوال،
ثم استيقن الخليفة أمره، ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة، وأفتى العلماء به، فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحواً من ألف سوط، ثم قُطعت يداه ورجلاه ثم ضُربت عنقه، وأُحرقت جثته بالنار، ونُصب رأسه للناس، على سور الجسر الجديد، وعُلّقت يداه، ورجلاه.. (تاريخ بغداد 123:8 - 141، والبداية والنهاية 184:11).
وقد ذكر كل من كتب حكايات عديدة، تدل على أن أصحاب الفكر الباطن، يموّهون على الناس، ويستميلونهم بالحيل والوعود، حتى يوقعوهم في حبائلهم لينفذوا مقاصدهم الفاسدة، الخفية، وأنه لا يقمعهم إلا قوة السلطان، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، حمى الله ديار المسلمين شرهم ومن يناصرهم.
|