حين يعرض القرآن الكريم للصفات التي تتجلى بها الزوجة التي هي الأم في المجتمع نقرأ قوله تعالى : {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } ، (5) سورة التحريم.
وحين يُسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الأَوْلَى والأحق بالصحبة للأبد يقول عليه السلام : أمك ، ثم أمك ، ثم أمك.
ولا أظن أن أحدا من المسلمين لم يقرأ أو يسمع قوله عليه الصلاة والسلام : (تُنْكَحُ المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ، ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك).
هكذا نشأنا في بيوتنا وتعلمنا في مدارسنا ، ووجهتنا وسائل إعلامنا المختلفة ، عندما يكون الحديث عن الأم ، بل إن كل الأناشيد التي تعلمناها منذ نعومة أظفارنا في شأن الأسرة تبدأ بالأم وتثني بالأب.
بل إن تراثنا الإسلامي كله يمجِّد الأم ويميزها ويرى فيها نواة المجتمع ، وصانعة الأجيال ، ولا أعتقد أنني في حاجة إلى ترديد بيت الشعر المشهور :
الأمُّ مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
كما أنني لا أظنني في حاجة إلى التذكير بالمقولة الشهيرة : أن الأم التي تهز المهد بيمينها ، إنما تهز العالم بيسارها.
لست في حاجة إلى إقناع الإنسان - أي إنسان - بأن الأم هي مصدر الحنان والعطف .. بل هي منبت الخلق ، التي تعطي دون شروط ودون انتظار رد الجميل.
لكن يبدو لنا في عصر العولمة ، في القرن الحادي والعشرين ، في الألفية الثالثة ، في زمن (الشرق الأوسط الكبير) المفصل حسب رغبة مشاغل بوش لخياطة خريطة العالم الجديد ، يبدو لنا أن هذه الأم التي لا يمكن حصر الحديث فيها قد أصبحت (وسيلة إعلانية دعائية هامشية) ، تم سلخها عن كل التعريفات الفكرية والقلبية والعقلية ، واختصرت في مقولة : أقرب الطرق إلى قلب الرجل معدته!. لم يبق الأمر عند هذا الحد ، بل تعداه إلى الأطفال والصغار الذين يفترض فيهم - كما عهدنا - أن يكونوا مجبولين على حب الأم والتعلق والارتباط بها ، والحاجة الماسة إليها ، حتى وإن كانت عرجاء ، لثغاء ، عمياء ، خرساء ، هوجاء إلى آخر كل الصفات التي تنقص من أمر المرء إلا أن يكون أُمَّاً ، حيث تزداد قيمة الأم كلما أحس ابنها أنها في حاجة إليه.
هذه المفاهيم انقلبت رأسا على عقب ، حين يخرج علينا مَن يريد أن يجدد في الأساليب الدعائية ، فيأتي لنا بطفل يجلس بجانب والده في سيارة فارهة ، وبدون مقدمات يطلب من أبيه طلبا صريحاً أن يأتي له بأم ثانية ، لا لأنه في جوع إلى الحنان ، أو ظمأ إلى عاطفة الأم ، لكن لأن أُمَّه لا تستطيع - كما يقول الطفل- أن تطبخ له الدجاج (مثل أم فيصل).
الأرض هي الأم ، والعاطفة هي الأم ، والوطنية هي الأم ، والإنسانية هي الأم ، لكننا نقتل الأم والإنسانية والعاطفة ، حين نختصرها جميعا في طبخة دجاج .. ونغتال الأرض والوطنية التي تقوم على استبدال الأم من أجل طبخة واحدة قد لا تكون دجاجتها سليمة من (السارس)!!.
فاكس2051900 |