كأنما الأضواء النائية التي تمنح هذا المكان انكشافه تريد أن تنسحب وتتركه في ظلمة لا يعلم إلا الله كيف ستكون.. فالأشياء التي كنت أراها تلمع كالصفيح بدأت تبتعد أو تختفي.. والكائنات تضمحل أو تفقد شكلها الذي اعتدت عليه وتتبعثر كالدخان الذي يفقد مصدره، ولم يبق أمامي محتفظاً بوضوحه سوى طرطوشة.. بدأت أشعر بالوحشة، لماذا تدنى حضور هؤلاء وتركوني؟ هل انتهت المحاكمة؟ أم أنهم عهدوا بي إليها؟.. أخذت تقترب مني حتى أصبح حضورها في مشاعري بقوة أحساسي بحضوري الذاتي.. لم أعد أقوى على التفكير أو التخيل، فقد خفت أنها أصبحت تقرأ ما يدور في خلدي من أفكار.. ولكني لم أعرف كيف أغلق جريان التفكير؟.. لم تضع وجهها في وجهي كانت تقف بمحاذاتي.. فبدا حضورها المادي أضعف كثيراً من حضورها في أحساسي.. فلولا صوتها الذي أنطلق بعد ثوانٍ من الصمت كنت سأظن أن المسألة مجرد حلم.. قالت موجهة كلامها للخلق المتلاشي: سأدخل فيه لأربيه.. فجأة عادت الصورة الأولى وتجلى الخلق، كما كانوا في أول دخولي، وبدأت الأصوات تعود بحدتها المعدنية.. وظهر والد طرطعوشة، كأنما لم يظهر من قبل وإلى جانبه والدتها، وتجمع القاضي مرة أخرى على برميله.. فابتسم منهم من ابتسم، وبدأت أسمع كثيراً من الهمس، فقال والد سرطعوشه: نحن يا سيدتي لا نتدخل في رغباتك ولكن عليك أن تكوني منصفة فهذا الولد قتل سرطعوشة صاحبتك ورفيقتك.. سحقها بقدمه القذرة وهو يلبس البوت جزمة الكورة.
يبدو أن المحاكمة أرجئت لتحل محلها مشكلة الحب.. فقالت طرطوشة إني أقدر مشاعرك يا بنت جنسي وأعرف التقاليد الثابتة لنا نحن الجان، وكما تعرفين فإن والدي هو الذي دعا القاضي سعمسوط ليحقق حفظ الله العدالة.. فرغباتي ليست هي كل شيء ولكن عليك أن تعرفي أن هذا الأنسي ليس سوى طفل في الثالثة عشرة من عمره ولا يعرف أي شيء عن الحياة، فكيف يعرف عن القتل والموت؟.. فقالت والدة سرطعوشة: ولكنك طلبتِ أن تدخلي فيه وهذا مخالف لكثير من القواعد، كيف تضمنين أنه سيكون مخلصا؟.. لكن ألا تعتقدين بأنه سوف يذهب الى أحد المشايخ ويقرأ عليه أو ربما يذهب إلى حله ابن نصار ليخرجك أعداؤنا هناك من جسده بالضرب وتفرين صاغرة من أخمص قدمه كما حدث لسماسم عندما أخرجوه من جسد تلك الفتاة الصغيرة التي سكنها أشهر بسبب الحب.. هل تتوقعين أن يقدر الإنس ذلك الحب الذي تنفحينه لأبنهم؟.. دعيه يعبر عن حبه أو عن تقديره لجمالك.. سوف تضطرين دائماً أن تتلبسي في صورة أنسية قبيحة حتى يقبلك.. هل تقبلين أن تكوني بقبح ليلى علوي مثلاً؟ والعياذ بالله.. هل ستظنين أنه سيأخذك في الأيام الحالمة الى مخربة؟.. ليكن في علمك سيأخذك الى حديقة خضراء تحف بها الأشجار مثل حديقة الفوطة.. فهؤلاء يعتبرون الصراخ في آخر الليل جنوناً.. فقالت طرطوشة: إنك تبالغين يا أُخيَّة لقد قام الحب كثيراً بيننا وبينهم ولا يمكن إنكاره.. أنت تحصين الحوادث التي فشلت ولا تحصين الوقائع الناجحة.. فقالت والدة سرطعوطة: ثقي إن أهله لن يتركوك تمرحين في جسده وتجويف فؤاده، سيأخذونك إلى ابن طخطيخ ليسومك العذاب بنفثاته وقراءته الجهنمية.. من الواضح أن ابن طخطيخ عدو الجن الأول، فما أن سمعت طرطوشة اسمه حتى صرخت بصوت حاد يمزق طبلة الأذن وأخذت تدور حول نفسها، والغريب أن الحشد بقي هادئاً كأن الأمر لا يعنيهم لم أفهم هذا التعبير وبعد عدة دورات همدت عاشقتي الجنية قليلا وعادت إلى حالتها الأولى وقبل أن أشكل أي فكرة عما يجري أحسست أن طرطوشة بدأت تنتفض مرة أخرى.. في هذه المرة بدت تتحرك كأنها تطرد عن جسدها حشرات، وبعد قليل سقط عنها حشف بني اللون كان ملتوياً حول شكلها كالخيش الخشن، فتكشفت عن صورة عود جاف متكسر.. عرفت أنها بدأت تتحرك عندما سمعت طقطقات حطبية ذكرتني بكومة الحطب التي بدأت منها قصتي مع هؤلاء.. تحركت إلى داخل الحشد حتى أضحت وسطه ثم دخلت في عدد متتابع من التحولات التي عجزت عن ملاحقتها.. وأخيراً بدأت تظهر كامرأة أنسية تلبست فستاناً أزرق يعرف في ذلك الزمان بالرنسيس.. يبدو كثوب الرجال عندما تكون المرأة جامدة في داخله ولكن إذا تحركت تصادمت مؤشرات أنوثتها مع حدوده.. وأخيراً ظهرت لي امرأة كاملة مليئة الجسد متوسطة الطول حاسرة الوجه.. كأنما سبق لي أن شاهدتها.. فبدأت أبحث في ذاكرتي عن النساء اللاتي حركن في داخلي مرحلة العمر الجديد.. من حسن الحظ كنت في الثالثة عشرة فبقي عددهن محدوداً فتذكرتهن جميعاً واحدة تلو الأخرى، وفي كل مرة أتذكر واحدة تتحول طرطوشة إليها وكأنها تخيرني بينهن.. فوقع قلب الطفل الذي كنت إياه في حيرة.. ولكن الطبيعة سجلت خروج طفل من طفولته وزاد عدد الرجال واحداً.
أقدم اعتذاري لكل القراء عن توقفي يوم أمس الأول بسبب عارض صحي ألم بأسناني فلم استطع أن أرتب النص ليكون جاهزاً للنشر.. إلى اللقاء يوم السبت مع بقية القصة.
فاكس: 4702164
|