قبل عامين كنتُ في زيارة للصديق الأستاذ فايز أبا، شفاه الله وعافاه، بأحد المستشفيات في منطقة المعادي بالقاهرة، عندما تعرض لمشكلة صحية، وفي هذه الزيارة دخل علينا الأستاذ إبراهيم منصور بعينيه الواسعتين وعكازه المميز وذقنه البيضاء ولونه الذي يشبه لون ابن الصحراء، كان مرحاً وحادَّاً في نفس الوقت ويُكنُّ ودَّاً خاصاً لحبيبنا فايز.. ورغم أنه تخطى الستين عاماً بكثير في ذلك الوقت، إلا أن حيويته لا تعطيه ذلك.. هذا الرجل، كما يكتب ويقال عنه، لم ينشر سوى قصة واحدة، لكن ما قاله في الندوات والمقاهي والمسيرات من الممكن أن يشكل عشرات الكتب.. لقد كان مثقفاً ومشاكساً من طراز رفيع، حتى إن نجيب محفوظ، حين يتحدث عن نقاده، لا ينسى الاشادة بثاقب البصيرة إبراهيم منصور. لقد مات إبراهيم منصور عن 72 عاماً بعد مرض قصير، وتخلى بموته نهائياً عن المشاكسة والندوات والمقاهي والعكاز والذقن البيضاء، لكن سيبقى منه مرارته أو نظرته المتشائمة للواقع، هذا الواقع الذي استبدل الحذاء والبرنامج التليفزيوني الترفيهي والفيلم الكوميدي وحتى قصة الشعر بالكتاب!
ونسخة إبراهيم منصور موجودة لدينا بامتياز، ففي العديد من الندوات والأمسيات والمقاهي، هناك أشخاص يقرؤون كثيراً، ويناقشون كثيراً، لكنهم لا يكتبون شيئاً، وإذا كتبوا فإن ما يكتبونه يظل في جيوبهم، يقرؤونه في كل مجلس، حتى تهترئ الورقة التي كتب فيها الكلام فترمى أو تضيع، دون أن يُنْشَر ما فيها، ليخرج من دائرة المقاهي والندوات والأصدقاء إلى الوسيلة الإعلامية!
كان عبدالله با محرز، رحمه الله، واحداً من هؤلاء، يجلس مثل الحكواتي في كل مجلس، ليقرأ من ورقه قصة (حقول الاسمنت)، وقد حفظها الأصدقاء المحيطون به، وإن كان كل من قرأها في الصحف لم يفهم منها شيئاً، وإذا فهم وأعجب وبحث عن المزيد لهذا الكاتب فلن يجد؛ لأن با محرز كان معلماً وموجهاً وناقداً أكثر منه فناناً.. لقد قال بعض الخبثاء ان با محرز خلال وجوده في الرياض تخرج من تحت يده العديد من التلاميذ، لكن أغلب هؤلاء التلاميذ تخلوا عن أستاذهم، فلم يقفوا بجانبه عندما تعرض لبعض المحن، التي جعلته يغادر إلى اليمن، حيث مات هناك بصمت، لتموت معه حكاياته عن الحداثة واللامعقول وحقول الأسمنت!
لقد عرفت با محرز في بداية السبعينيات الميلادية، وكنا في ذلك الوقت مجموعة من الصعاليك، لم أعد أذكر منهم الآن سوى عبدالله با خشوين وفهد الخليوي وعبدالله با محرز، وكان عمنا وموجهنا سباعي عثمان، رحمه الله.. كنا ندخل في المساء إلى المعرض الذي يعمل فيه با محرز بائعاً لأجهزة التصوير الفوري (بلورايد)، وكان يُجلسنا في ركن من المعرض ويُقدم لنا الشاي والقهوة ريثما ينتهي دوامه، لنخرج في جولات قد تمتد حتى مطلع الفجر. كان با محرز يباشر الزبائن بالبيع وقبض النقود، ويباشرنا بالكلام المتدفق والضحكات التي تخفي ألماً دفيناً من وضعه ووضعنا معاً.. ومضت سنوات لأجد با محرز هنا وقد كوَّن له شلة خاصة أراد أن يقدم لها فلسفته في الحياة والفن والصعلكة، لكن هذه الشلة لم تقدم له شيئاً ذا بال.. ولا ندري هل استفادت منه شيئاً أم لا!وهناك شخص آخر لا يكاد يغيب عن مناسبة ثقافية أو منتدى عام أو خاص، إنه حاضر في كل مناسبة ثقافية بتعليقاته وآرائه وفلسفته التي توقفت عند الحقبة الواقعية.. هذا الرجل لا يملك من حطام الدنيا شيئاً ولا أدري إن كان كتب قصيدة أو قصة أو مقالة، وإن كان دائماً ما يحمل في جيبه كلمة نارية تذكرنا مفرداتها بمن تبنوا قضايا الطبقة العاملة ومكاسب الجماهير، وهو ينافح ليكون له الحق في مداخلة أو سؤال.. لكنه غالباً لا يظفر بما يريد.لكن يظل محمد القشعمي قمة النقاد الشفهيين بمشاركاته وقربه من الكتب والأدباء، وقد تخلى أخيراً عن الاستماع والنقاش ومسامرة ومناقشة الكُتَّاب والأدباء، وبدأ يُخرج شيئاً من مخزونه المعرفي؛ فأخرج البدايات الصحفية في المنطقة الشرقية، وقدَّم كتاباً عن عبدالرحمن المنيف، وساعد في إصدار أعمال الراحل عبدالعزيز مشري، ولديه خبرة واسعة عن حياة عبدالكريم الجهيمان، وهو موجود في معارض الكتب والندوات والمجالس الثقافية، وعلاقاته واسعة مع الأدباء والكتاب.. أبو يعرب لو سجل انطباعاته عن الحركة الثقافية في بلادنا خلال اختلاطه بالأدباء والمثقفين, لخرج لنا بمعلومات يحتاجها الكثير من القراء والمشتغلين بالحياة الثقافية، لكنَّ أبا يعرب سيظل مثل إبراهيم منصور، ناقماً وساخطاً على الهلس الذي تعيشه الحياة الثقافية، وعلى التردي الذي تشهده الحياة السياسية في العالم العربي.
فاكس 4533173 |