إن تُرْبة المعاناة التي تُغْرَس فيها أشجارُ التعب والعناء والألم في هذا العصر لتُربةٌ خِصْبَةٌ تحظى بعناية أولئك الذين يسعدون بإشقاء الناس، ويجدون الراحة في إتعابهم.
مع كل إشراقةِ شمسٍ في هذا العصر، ومع كلَّ إطلالةِ فجر، تُغرَس في تُرْبةِ المعاناة شَتْلَةٌ شوكية قاسية، ويُغرَزُ في خاصرة الأمةِ سهم قاتل، ويُشعَل في ثياب الضعفاءِ والمشردين لهب حارق.
ومع كل ظلام دامسِ، ودُجَىً طامس، ترتفع أنَّات وزفرات، وتتعالى حسرات، وتُسَكَبُ عبراتٌ، وتذوب في لهيب الأسى نبضات، وتنكسر نظرات، والضحية في ذلك كلِّه: أيتامٌ وأرامل، وشيوخٌ ذهبت بهم الشيخوخةُ كلَّ مذهب، ومشردون ركبت بهم الأهوال كلَّ مركب.
هنالك من يتعهَّد تُرْبة المعاناةِ بالعناية، ويتابعها بالسقاية، ويتفنَّن في غرس جنايةِ فيها بعد جناية، يجري ذلك على مرأى من العالم ومسمع؛ يجري في بلاد المسلمين، ويبرز جلّياً في العراق وفلسطين، كما هو بارزٌ في أفغانستان وكشمير والشيشان وغيرها من البلدان.
في تربة المعاناة تنبت آلام، وأهوال جسام، وتتعالى من بين أشواكها ونباتاتها المتجهِّمة نداءات الضحايا والمساكين المشردين، تخترق حجب التضليل والتعتيم قائلةً بملء فم الأسى: أين أنتم يا مسلمون؟
وسؤال مايزال واقفاً كغصن الشوك أمام أعيننا: ماذا نصنع؟
وجوابٌ ينطلق من فم الواجب لا يكادُ يُسْمعَ، يقول: الأَولى بالأمة الإسلامية أن تقوم بواجبها المتمثِّل في دورٍ فاعلٍ مؤثِّر في النٌّصْرةِ المباشرة لأبنائها الذين يغوصون في تربة المعاناةِ إلى ما فوق آذانهم، ويتعرضون للاعتداء الآثم والقتل، وهدم الديار والتشريد.
وصوتٌ واهنٌ يخرج من تحت ركام منزلٍ في رفح يقول: نعم، هذا هو الأولى بالأمة الإسلامية، ولكنَّ الأمة عاجزة عن القيام بهذا الأولى عجزاً يؤكده صمتُها الذي يدلُّ على وهن ما بعده وهن، ويؤيِّد هذا الصوت صوتٌ شبيهٌ به ينبعث من بقايا منزلِ متهدِّم في الفلُّوجة، وصوتٌ ينبعث من هناك من بقايا الكراسي المهشَّمة في حفل زفافٍ كئيب هنَّأته طائرات الاحتلال الأمريكي بقنابلها على الحدود بين العراق وسوريا، وصوتٌ أكثر حزناً ينبعث من ركام قرية صغيرة أصبحت أثراً بعد عين في أفغانستان، أصوات كثيرة انطلقت واهنةً تردِّد: نعم إن أمتنا الإسلامية عاجزة عن القيام بالأولى
ولكن ذلك السؤال الواقف أمام أعيننا كغصن الشوك مايزال يردد: إذا لم نقم بالأولى فماذا نصنع؟
وينبعث صوت جوابٍ فيه حكمة ظاهرة يقول: الدَّعم بالمال، فهذا واجبٌ مقدورٌ على أدائه في وقتٍِ أصبح الناس فيه يتردَّدون عن بذل مالٍ لإنقاذ محتاج خشية الوصف بالإرهاب.
وهنا انفرجت أسارير الأمل في النفس، وردَّد ثغره الجميل عباراتٍ واضحة: نعم، لابد من أن ننقذ بالمال أرملةً لا تدري ماذا تفعل، وطفلاً لا يعرف أين يجد المأكل والملبس والمشرب، وشيخاً واهن القُوى يضطجع أمام ركام داره التي حطَّمتها الجرافات بلا رحمة ولا إشفاق.
نعم لابد أن نقدِّم مالاً تُشترى به لقمةٌ لجائع، وشربةُ ماءٍ نظيفةٌ لعطشان، وثوبٌ لعارٍ أو عاريةٍ يواريان جسديهما عن أعين الناظرين، وعن عدسات المصوِّرين الذين يسعون إلى دعم مجدهم التصويري بصور المآسي في بلاد المسلمين.
لابد أن نقدِّم مالاً ليشتري طلابٌ وطالبات مروَّعون ومروَّعات، حقائب ودفاتر وأقلاماً، لأن حقائبهم قد دُفنت بما فيها من أحلامهم تحت ركام بيوتهم المنهارة في رفح وغزةٍ وبغداد والفلَّوجة والرَّمادي وغيرها من المدن البائسة هذا أقلُّ ما يمكن أن ْ يقدَّم، وهو قليل جداً إذا قيس بما تقدِّمه عشرات الآلاف من الجمعيات الخيرية المنتشرة بحريَّةٍ كاملة في أمريكا وأوروبا للمحتاجين من أهل ديانتهم، وبني جنسهم.
هيَّا نحوّل تربة المعاناة إلى تربةِ أمل خصبةٍ، تنبت فيها أشجار العطاء.
إشارة
من ظنَّ أنَّ أنينه وزفيره
يغني الجياع فقد أساء ظنون |
|