حوار كان يدور بيني وبين صديقي رفيق الرحلة، وقد تطرق الحديث إلى مواضيع شتى حتى جاء ذكر القصيدة فكانت المفاجأة أن أخرجها لي صاحبي من حقيبته، وقد احتفظ بها منشورة منذ أكثر من عام.
أشرف الدنيا سلام.. واكثف الدنيا لهب
أعدل الناس في خصام ..وأحلم الناس في غضب
أبخل الدنيا ملام.. واكرم الدنيا هدب
ما جلست إلا قيام.. وما استرحت إلا تعب
ما صعدت إلا سنام.. وما نزلت إلا المهب
وما سوى صمتك كلام.. وما سوى لفظك ذهب
ما انثنيت إلا حسام.. وما استقام إلا حدب
وما ابتسمت إلا غمام.. وما تجهمت لسبب
ما رعيت إلا الذمام.. وما كفلت إلا الأدب
كم فضحت من الظلام.. وكم سترت من العرب
أرفع الدنيا مقام.. وأعرق الدنيا نسب
وما سوى صدرك وسام.. وما سوى كتفك رتب
وطول هالعشرين عام.. ما سوى المجد انكتب
ما سوى العدل انكتب.. وما سوى الأمن استتب
وكثيراً ما استمعت إلى هذه القصيدة الرائعة للفنان الشاعر الكبير فهد عافت - مغناه - منذ أطلق الشاعر عقالها قبل نحو ثلاث سنوات في مناسبة الاحتفال بمرور عشرين عاماً على ولاية مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - متعه الله بالصحة وأدام ملكه وعزه -.
وكم طربت كثيراً لسماعها، ولكن لا بد من الاعتراف بأن الاستماع إلى الشعر المغنى يتوزع فيه انتباه المتلقي بين الكلمة واللحن والأداء بينما قراءة الشعر تصرف القارئ تماماً إلى الكلمة والمعنى وهذا ما أدركته اليوم وأنا أطالع هذه القصيدة - أثناء رحلتي من دبي إلى جوهانسبرج للاستشفاء - وقد أصبح همي الشاغل ردحاً من زمن الطيران أن أحتشد للغوص في بطن الشاعر بحثاً عن لآلئ المعاني.. وهكذا اكتشفت.
وسرحت بطرفي بعيداً واستوقفت الزمان قبل نيف ومائة عام حين خرج الملك الصالح المصلح عبدالعزيز آل سعود مع نفر من آله وخلصائه يقطعون الفيافي والقفار بأخطارها المحدقة وما لهم من عدة ولا عتاد سوى بعض بنادق قديمة ومائتي ريال! لم يكن الرجل في رحلة صيد أو نزهة وما كان مقصده إلى دنيا يصيبها فما كان وقتها في البلاد من شيء يستهدف وما كان كرسي المُلك الذي راح يستعيده موشى بالذهب والديباج.
فما الذي أغرى عبدالعزيز وفصيله أن يقتحموا تلك الصعاب ويتعرضوا للمخاطر.. في العهد العثماني قِيل إن أحد أفراد آل سعود قد أُلقي به في قِدر فيه ماء مغلي حتى مات. إذاً لم يبقَ إلا تلبية نداء الله لتطهير الارض من الضلال إلى حد الشرك، فضلاً عن انعدام الأمن وسيادة الظلم وعمومية الفوضى وهي الحالة المُزرية التي عبّر عنها أحد شعراء الحجاز وقتها بقوله:
ولهي على وطني العزيز وماله
قرم يقوم بشأنه مترفق
هذا يمنيه السعادة ساخراً
وذلك بالهدى يتشدّق
والكل لم نرهم لغير شقائه
عملوا وما أغناه ذاك المنطق |
إذاً فقد دفع آل سعود ثمناً باهظاً في استرداد المُلك وبناء الدولة على شريعة الإسلام دون أن يكون لهم مطمع دنيوي فلا بترول وقتها ولا ذهب!
وأقام عبدالعزيز - وأبناؤه من بعده- الدولة على شرع الله دستوراً وحيداً، ثم انطلقوا من ذلك يعمّرون ويحدّثون ويطوّرون حتى بلغت المملكة العربية السعودية شأواً عظيماً وبعيداً في التنمية وشأناً كبيراً من الاحترام الإقليمي والدولي.
وعندما يخاطب الشاعر مليكه بعد عشرين عاماً من تسنمه المُلك وقبلها عقود من خدمة الدولة في عدة مواقع مهمة، فهو يصيب كبد الحقيقة أن في الملك مشقة تخطب.. ويخطبها.. صاحب العزم المؤهل خلقة بما حوته القصيدة من أوصاف، حتى يصبح جلوس الملك قياماً واستراحته تعباً ومصعده سناماً ومنزله المهب.. بينما الملايين من الرعية تقطف الثمار.
ومن طرائف ما يُحكى أن خلفاء العصر العثماني تناهى إليه ذات ليلة أطراف حديث بين حارسي الجناح الذي فيه مخدعه.. أحدهما يتذمر من حاله الساهر (البائس)، بينما الخليفة ينعم بالنوم الهانئ على الفراش الوثير ويتمتع بالعيش الرغد والخير العميم.. فخرج الخليفة إلى الحارس الشاكي وأمره - بعد تخفيف المفاجأة عليه - أن يتبادلا المواقع فدخل الحارس إلى مخدع الخليفة بيما ظل الخليفة يحرسه طوال الليل، فلما كان الصباح قال: عمت صباحاً أيها الحارس.. كيف كان نومك الليلة.. واندفع الحارس يقول للخليفة: لم يداعب النوم يا سيدي قط عيني.. وكيف ينام من كان فوق رأسه هذا السيف في شفف المخدع وهو مربوط بشعره؟!
ولئن كان السيف في الحكاية حقيقياً فإنه اليوم مجازيٌّ دال على المسئولية الجسيمة التي يتجشمها ولي الأمر، وتلك الحرية التي يفتقدها بحكم موقعه، بينما يتمتع عامة الناس بحياة لا ترصدها المراصد، ولا تتبعها قنوات الإعلام.
وهذا قدرك يا سيدي الإمام.. وقدركم يا آل سعود أن تكونوا الشمس المشرقة والغيث والغوث والرأي السديد مهما كلفكم من مشقة وجهد في مواجهة حتى مَنْ طالتهم الأنعم فكفروا بها، وانقلبوا على مجتمعهم ضالين ومضلين.. ولكن جند الله هم الغالبون.
وليأذن القارئ بأن أودعه فترة الاستشفاء على أمل أن نلتقي بعد العودة إن شاء الله.
|