هل يمر إصلاح الداخل عبر الخارج؟.. في زمن العولمة من المؤكد أن يكون الجواب بنعم، غير أن العكس صحيح أيضاً، لقد ولى كما يبدو ذلك العصر الذي كان ينظر فيه الاقتصاديون بحذر إلى الانفتاح نحو الخارج كأحد مؤشرات التبعية وفقدان الاستقلالية والسيادة. فالعولمة فرضت أجندتها الخاصة. اختلفت المعادلات وأصبح العالم أكثر استعداداً للاندماج حتى أن عوامل التعرية الاقتصادية لا تصيب إلا الدول القاصية المنكفئة على نفسها. ومن حسن الطالع أن تكون بلادنا قد اتخذت لنفسها منذ تأسيسها منحى تقاربياً وليس انعزالياً مع الآخرين الأمر الذي ساهم في تجنيبنا بعضاً من المشكلات التي تعاني منها بعض الدول التي اختارت لنفسها الانكفاء والعزلة. لقد كان على هؤلاء في زمن (العالم القرية) أن يعيدوا صياغة نظمهم من جديد وان يلقنوا شعوبهم أبجديات الانفتاح على الآخرين.
مطلب اقتصادي
مثل تعزيز دور التجارة الخارجية على الدوام مطلباً اقتصادياً ملحاً للمملكة كما هو الحال للدول الأخرى، غير أن تعزيز دور هذا القطاع أصبح الآن كما نرى أحد أهم الاستراتيجيات التي من المهم لاقتصادنا الوطني أن يتبناها وبخاصة لجهة تسويق المنتجات غير النفطية. ورغم أن الإحصائيات تشير إلى تجاوز هذه الصادرات (غير النفطية) ما قيمته 40 مليار ريال سنوياً، إلا أن المملكة لديها المزيد من الفرص لرفع سقف هذه الصادرات.
وهناك 4 معطيات جديدة تفرض علينا سرعة التحرك لتعزيز دور تجارتنا الخارجية كرافد من روافد الدخل وهي:
- قرب انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية لاستغلال ما يتيحه الانضمام من تذليل للعقبات (من خلال دخولنا لـ147 سوقاً عالمية)، لتسويق العديد من المنتجات التي نحظى فيها بالميزة التنافسية.
- إنشاء الاتحاد الجمركي الخليجي الذي يسهل بدوره تدفق المنتجات بين دول المجلس.
- انضمام المملكة لمنطقة التجارة العربية الحرة وهذا بدوره يعزز من فرص تواجد منتجاتنا بالأسواق العربية.
- الاتفاقيات الثنائية العديدة التي وقعتها المملكة مع الدول سواء كانت اتفاقيات رسمية أو اتفاقيات مبرمة بين القطاع الخاص السعودي ونظرائه في العالم.
هناك اعتبارات عديدة تحتم على المملكة إعادة تقويم استراتيجيتها في التجارة الخارجية ليس بسبب تواضع أداء هذا القطاع حيث شهدت الفترة من 75-1981م مثلاً تضاعف الصادرات السعودية 3 مرات وبلغ معدل النمو السنوي للصادرات 28.2%، ولكن بسبب توافر الفرص لتحقيق نتائج أفضل سيما بعد نجاح المملكة في بناء قاعدة صناعية عريضة زادت من قيمة صادراتها غير النفطية على النحو المذكور. فقد بلغ مثلاً عدد المصانع المنتجة المرخصة حتى نهاية 1422هـ 3449 مصنعاً بتمويل يزيد عن 240 بليون ريال نحو 320 ألف عامل.إن تعزيز دور هذه المصانع وزيادة قدراتها التسويقية في الخارج سوف تخلق فرصاً وظيفية جديدة للشباب السعودي. كما أن ذلك سيزيد من جودة منتجاتها وقدراتها التنافسية. إن تنمية التجارة الخارجية لا تحقق فقط تلك الأهداف ولكنها تصب أيضاً في استراتيجية الاستغلال الأمثل للمواد الخام والمنتجات الأولية المحلية من جانب وجذب الاستثمارات الخارجية من جانب آخر وكذلك تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على البترول كمصدر رئيسي للتنمية.
تنمية حقيقية
إن تنمية التجارة الخارجية تعد من أهم أدوات التنمية الحقيقية لأنها تؤدي إلى: تنويع وزيادة الدخل وتحسين المنتج وتطوير التكنلوجيا. ووفقاً لبعض الدراسات الاقتصادية فإن كل بليون دولار من عوائد التجارة الخارجية الأمريكية يخلق 25 ألف وظيفة جديدة للاقتصاد الأمريكي كما أن كل جنيه إسترليني ينفق في دعم التجارة الخارجية البريطانية يعود بـ80 جنيها على الاقتصاد البريطاني.اننا ننتظر اليوم الذي ننفق فيه بليوناً من الريالات على تطوير تجارتنا الخارجية لنخلق فيه مثل ذلك العدد الكبير من الفرص الوظيفية الجديدة لابنائنا. وقياساً على ذلك ولو سارت الأمور كما ينبغي فلربما نتمكن من توفير ربع مليون وظيفة من خلال إنفاق 10 أو 20 بليون ريال (على أسوأ التقديرات)على هذا القطاع!!.
لقد مثلت حقبة السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي الماضي الفترة الزاهية في اقتصاد المملكة حيث حققت إيرادات نفطية كبيرة ولكنها كانت أيضاً فترة
الاستقرار الذي لازم السوق النفطية. فقد انخفضت مثلا إيرادات الصادرات السعودية من 405.4 مليار ريال عام 1980 إلى 74.3 ملياراً عام 1986م وكان ذلك اكبر فارق بين الإيرادات (عند مقارنتها)، في وقت شهدت فيه الاحتياجات التنموية زيادة اكبر وزاد فيه عدد السكان مما تطلب المزيد من الإنفاق الحكومي على المشروعات التنموية والتعليمية. وبالمناسبة لقد عادت الإيرادات مرة أخرى للارتفاع بعد ست سنوات أيضاً إلى 188.3 مليار ريال عام 1992م.
هذه التأرجحات الحادة تؤكد أهمية البحث عن مصدر جديد ينوع دخل المملكة. نعم لقد شهدت البلاد نهضة صناعية وزراعية شاملة وكبيرة وعلى مختلف القطاعات الإنتاجية. لكن النجاح في قطف ثمرة كل تلك الإنجازات يعتمد على مدى النجاح الذي قد نحققه على صعيد تسويق منتجاتنا داخليا وخارجيا. بمعنى أننا لا نواجه فقط تحدي الارتقاء بالقدرة التنافسية لمنتجاتنا من حيث الجودة والأسعار على الصعيد الداخلي إنما المأمول بل من الملح أن نأخذ تلك المنتجات وننافس بها في الأسواق المجاورة والعالمية. فلم يعد أمامنا وقت للتذرع بالفجوة التقنية التي تفصل بيننا وبين الآخرين لأن التقنية الآن أصبحت متوفرة لمن أرادها.
فتح الأسواق
يمكننا إذن من خلال استراتيجية جديدة أن نعطي زخماً أكبر لتجارتنا الخارجية. يمكننا فعل ذلك سواء من خلال إنشاء أجهزة تسويقية جديدة أو العمل بقوة لفتح الأسواق التي كانت منغلقة أمام المنتجات السعودية من خلال إرسال الوفود التجارية وهو ما نقوم به حالياً بمجلس الغرف السعودية. وسيمثل انضمامنا المرتقب لمنظمة التجارة العالمية إضافة جديدة لأدواتنا التسويقية. ومما يعزز أهمية مثل هذا التوجه هو التوقعات بشأن الفرص الاستثمارية المواتية داخل الاقتصاد السعودي والتي تقدرها جهات رسمية بنحو يزيد عن تريليون و200 بليون دولار في بعض القطاعات الاقتصادية الهامة.
هكذا فإن قطاع التجارة الخارجية قد يكون إذا أحسنا التعامل معه نقطة الانطلاق للاقتصاد السعودي من اقتصاد أحادي الدخل إلى اقتصاد متعدد المصادر ومن اقتصاد يقوم على تسويق المنتجات الأولية إلى اقتصاد قادر على تعظيم القيمة المضافة لمنتجاته. من المؤكد أن قدرتنا على تنشيط قطاع التجارة الخارجية واكتسابنا للمهارات التسويقية الدولية سيزيد من فرص توطين رؤوس الأموال وعودة رؤوس الأموال المهاجرة وكذلك جذب الاستثمارات الخارجية.ومن المهم الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي قطعت شوطاً كبيراً في مجال التصدير خاصة في مجال الصادرات الصناعية وغير التقليدية مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وغيرها من الدول التي أنشأت وزارات خاصة بالتجارة الخارجية.
خلاصة القول: إن تجارة المملكة الخارجية باستثناء صادرات البترول ما زالت دون مستوى الطموحات، ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب ربما من بينها الحاجة الى وجود استراتيجية طويلة المدى وواضحة المعالم تتبنى تفعيل التجارة الخارجية للمملكة، وتعمل على استغلال القدرات الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية المختلفة، واستغلال المزايا النسبية والتنافسية التي تتمتع بها المملكة.وبنظري فإن الحاجة الملحة عالمياً لخام البترول وسهولة تسويقه قد أدى من حيث لا ندري الى وقوعنا في ما يمكن ان نطلق عليه (فخ الكسل التسويقي).. اننا بحاجة الى ضخ روح جديدة في هياكل اقتصادنا التسويقية وخلق اجهزة واذرع تسويقية جديدة.
إن الوقت قد حان لوضع استراتيجية خاصة بالتجارة الخارجية تقوم على تنفيذها هيئة أو جهة مستقلة تعنى بالصادرات السعودية بوجه خاص وبالتجارة الخارجية على وجه العموم ووضع الآليات اللازمة لمتابعة تنفيذها. كما يمكن لهذه الاستراتيجية ان تدعم الاتجاه نحو إنشاء صناعات ومنتجات توجه خصيصاً للأسواق الخارجية يتوفر فيها خصائص ومتطلبات الطلب الخارجي بدلاً من الاعتماد على تصريف الفائض، مع ضرورة إعطاء الأولوية في قبول المشروعات الجديدة لتلك التي تعمل في مجال التصدير، والاهتمام بالصادرات غير النفطية جنباً إلى جنب مع الصادرات النفطية، وذلك للاستفادة من المزايا النسبية.لقد حان الوقت أيضاً لان نساهم مساهمة فاعلة في توجه الاقتصاد العالمي لا ان نكتفي بمحاولة الاستجابة لما يحدث على الساحة العالمية.والله الموفق.
(*)أمين عام مجلس الغرف السعودية |