ناولني أحد الزملاء تقريراً فنياً علمياً أعده، راغباً في مناقشته، وبعد اطلاعي، قلت: أعرف أن لديك أفكارا مخالفة لبعض ما قرأت، فذكر لي أنها تعديلات المدير، فقلت: ولكنه تقرير فني علمي ليس إدارياً ولا تنظيميا، وبعيد عن اختصاص المدير واسمه ليس موضوعاً على التقرير ليشاركك المسؤولية، فهذه مسؤوليتك وحدك! فرد: صحيح، ولكن المدير حريص عليّ، فقد أصر أن هذه الأفكار غير مألوفة ومحرجة لي، رغم قناعتي بها، المسألة، إذن هي الانصياع لنمطية المألوف.. فلطالما واجهت أصدقاء يرغبون في المشي الرياضي معي مرتدين ثياباً تضايقهم في المشي ويتأففون منها، ولكنهم يصرون على ارتدائها تماشياً مع نمطية اللبس المعتاد! ودائماً أتذكر ذلك الصديق العزيز الذي هددني عن حب بأنه سيقطع علاقته معي إذا أنا لم أذهب لطبيب مشهور بدلاً من الطبيب الذي أتعالج عنده! ومع التفرقة بين النصيحة والتدخل، أسأل، كم من القرارات المنوطة بنا يتدخل بها الآخرون، والعكس كم من قرارات الآخرين التي نتدخل بها؟
تقول الأستاذة هنا العمير (يحبك الآخرون عندما تكون وجهاً بلا ملامح، مرآة تعكس وجوههم، ويكرهونك عندما تبدأ ملامحك بالظهور!) . نحن مسكونون في مجتمعاتنا العربية بفكرة النمط الواحد.. الجماعة الواحدة، التقليد الواحد، القيمة الواحدة، الفكر الواحد، حتى تغيب المبادرة الفردية والحرية الشخصية وخصوصية الفرد وحقه في الاختلاف الشخصي مع الآخرين، وبغياب الاستقلالية الفردية نفتقد إحدى البنى الأساسية للمواطنة، فالمواطنة ليست غرضا إجرائياً نطالب به فقط، بل هي أيضاً قناعات وسلوك ونمط معيشة، صحيح أن هناك تشريعات وأنظمة وضوابط تلزم أفراد المجتمع باتباعها، ومن واجب الفرد الالتزام بها، إلا أن الحديث هنا عن ما تركته الأنظمة خياراً متاحاً للحرية الشخصية، ناهيك عن أن تفسير كثير من الأنظمة والضوابط الاجتماعية يخضع لسقف لتصور النمطي الضحل ليصل إلى حد من الضيق لم تقصده تلك الأنظمة.
على المستوى الاجتماعي، كم نسبة الشباب الذين لا حرية لهم في اختيار: تخصصاتهم الجامعية، هواياتهم، طريقة عيشهم، زوجة المستقبل، ملبسهم، مأكلهم.. الخ، وكم من الشابات اللواتي لا حق لهن أصلاً في هذه الاختيارات؟ كم من زوج وقع على وثيقة خاصة بزوجته دون مشورتها مفترضاً أنه قراره لا قرارها؟ لماذا يصر الوالدان والجماعة أنهم معنيون باختيار زوجة الشاب الذي ينتمي اليهم أكثر منه؟ لماذا يقرر أحد الوالدين أو كلاهما على تحديد مستقبل ابنهم المهني أو الدراسي باعتباره مستقبلهما لا مستقبله هو؟ كل هذه الحقوق المسلوبة وانتزاع القرارات الخاصة لم يقره لا تشريع ولا نظام إنما هو العرف والنمطية التقليدية في السلوك، وذلك ينطبق على المعلم الذي أسبغ على نفسه حق تفسيره الأبوي في مصادرة كثير من هوايات الطلبة، أو اجباره الطلاب على تبني وجهة نظره الفكرية أو السياسية الخاصة به، وعلى المسؤول الذي يصدر من القرارات التعسفية وفق نظرته الفردية، ويطلق تعاميم فوقية لا تكترث بآراء الموظفين أو مشاعرهم.
وفي ذات السياق، تحاصرنا على المستوى الفكري العام نمطية ذهنية وثوابت فكرية وهمية ومحظورات لا تحصى.. فهنا الأصل في الاختلاف المنع!! حيث تكون الاستنتاجات غير النمطية في دراسة الأفكار الفلانية ممنوعة قطعياً شكلاً ومضمونا، وتناول المواضيع الثقافية الحساسية يمنع الاقتراب منه، والسياسي كذا محظور، ونقد أدائنا تجاه الخصوم أو تعاملنا مع الآخرين جلد للذات، والنقد التحليلي للمجتمع القبلي تشجيع للنعرات، والدراسة النقدية للوضع الطائفي إثارة للفتنة، وتحليل الفروقات الحضارية بين مجتمعات المناطق عنصريته، والتطرق لحقوق المرأة ووضعها المزري في المجتمع التقليدي انحراف، وطرح قضايا حقوق الإنسان تماهي مع الغرب، ونقد فكر عفا عليه الزمن هرطقة، ومناقشة النظام القضائي تشكيك في عدالتنا، ونقد مناهجنا الدراسية خنوع لخصومنا.. إذن، ماذا بقي من حرية وابداع للكاتب والمصلح والباحث العلمي والمفكر التنويري، غير مجاملات لأوضاعنا ومسايرة لأنماطنا المعتادة؟
وفي الحوارات الفكرية التي تتم والاجتماعات المهمة، غالباً نسمع أنه لا خلاف بين المتحاورين وأن كل شيء على ما يرام، بينما الحوارات تتم عادة للتثاقف بين مختلفين أو متخاصمين وإلا كانت مجرد محاضرات تلقى للتعليم ولا تبحث في تناحرات أو إشكاليات واقعية.. فالاختلاف مسألة طبيعية والاعتراف بها وتشريعها ظاهرة صحية بها ينال الافراد والجماعات حقهم في الاختيار وعدم الاقصاء وتلافي الاحتقان الداخلي، ويتوفر للوطن الاستقرار الاجتماعي وفرص التنوع المبدع وانتقاء الأفضل من الخيارات المتعددة.
وتفريعا من المستوى الفكري العام، نجد من يخرج عن سرب النمطية الأدبية (تقليدية كانت أو حداثية) يواجه هجوم الكتّاب النمطيين بقسوة، مما أدى الى التراجع الكبير على المستوى الثقافي لحركة الإبداع والادب والفن والتفاعل مع حضارات الآخرين وتجدد الأجيال، وفي الجانب السياسي فإن من يطرح تصوراً سياسياً مخالفاً في قضايانا القومية تلصق به التهم، فأغلب المثقفين العرب لا يناقش معك القضايا السياسية إلا من باب التأييد المتبادل، ففي ما يخص القضية الفلسطينية، إذا انتقدت عسكرة الانتفاضة أو انتقدت مقاطعة التيارات المعتدلة في صفوف الخصم أو انتقدت مسيرة الكفاح المسلح مطالباً بالمقاومة السلمية.. الخ، فأنت متهم أو ربما مدان سلفاً!! لا وجود للحرية الفكرية للفرد وحق الاختلاف حوله، بل نمط واحد يتم تأكيده بغض النظر عن فشله الذريع أو نجاحه الرائع أو ما بينهما.. مجتمعات لا تحترم الحق في الاختلاف ولا التجديد.. وغالباً ما يكون البطش من الأصدقاء المثقفين وارتيابهم العصابي (بارانويا) قبل الجهة الرسمية وجهازها البيروقراطي.
لا اعتراض ولا خلاف ان يكون لأي مجتمع أو جماعة نمطها وعاداتها وتقاليدها من مأكل وملبس ومسكن وقناعات وأفكار، بل هذا هو المألوف، إنما الاعتراض على حرمان الفرد من حقه في الاختلاف الشخصي في زمن المدن وثورة الاتصالات وانفجار المعلومات، استبداد النمطية ومصادرة الحرية الشخصية وسلب المبادرة الفردية هي من مظاهر القمع في أساس البنية التحتية للمجتمعات العربية، التي نرى انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على كافة المستويات من تربوية وثقافية وسياسية وإدارية.
|