ترسيخ السلام السوداني

يمضي السودان قدماً نحو التوقيع النهائي لاتفاق السلام الكامل، وقد أنجز أمس في خطوة أخرى متقدمة التوقيع على بروتوكولات السلام الستة وهي: بروتوكول مشاكوس الإطارى الذي ينص على إعطاء أبناء الجنوب حق تقرير المصير، وذلك الخاص بالترتيبات الأمنية والعسكرية وبروتوكولا قسمة الثروة والسلطة وبروتوكولات المناطق الثلاث المتنازع عليها بين الشمال والجنوب ووضع العاصمة القومية.
التوقيع الذي جرى أمس عزز الثقة في انتقال منتظم نحو التوقيع النهائي الذي يتوقع أن يتم بعد شهرين من الآن والذي ستتلوه فترة انتقالية تبلغ الست سنوات، وفي كل الأحوال فإن كل المراحل في السلام السوداني تستوجب قدراً من الثقة المتبادلة يتيح التقدم إلى الأمام باتجاه ترسيخ السلام كحقيقة لا نكوص عنها إلى الماضي بكل آلامه وجراحاته.
وفي مسيرة هذا السلام يلاحظ بوضوح كيف أن المتحاورين يحرصون على تمتين الثقة من خلال تكثيف الحضور الدولي، ومن خلال التوقيع الاحتفالي على كل مرحلة من مراحل المفاوضات وتثبيتها على أرض الواقع مثلما هي على الورق، فاتفاق وقف الأعمال العدائية الذي يجري تجديده بين الحين والآخر يعطي مثالاً طيباً لمدى الحرص على إكمال المسيرة السلمية بالطريقة التي تؤدي إلى زرع الثقة وتمتينها إذ لم يتم تسجيل اختراق للهدنة طوال الشهور العديدة التي استغرقها التفاوض، الأمر الذي يعكس حرصاً متعاظماً من قبل طرفي التفاوض على إنجاز العمل بالطريقة المثلى.
ومع ذلك فإن الانتهاكات غير المقصودة لوقف إطلاق النار كان يتم التحقق منها ويتم إخمادها في مهدها ولم يكن هذا الأمر يسيراً في الماضي، حينما كان يكفي لمجرد حادث بسيط أن يؤدي إلى إشعال جميع جبهات المعارك.
لقد عكس الحدب والحرص الشديد على إنجاز السلام المرارات التي صاحبت حرباً استمرت طوال عقدين من الزمان، هذا فيما يتعلق بالحرب الأخيرة، إذ إن السودان عرف الحرب الأهلية منذ استقلاله قبل 50 عاماً غير أنه كانت هناك فترات توقف، إلا أنها لم تفلح في إزالة الغبن الذي يعلق في العادة بالنفوس من مثل هذه الصراعات الطويلة، ولهذا فإن المفاوضات التي استمرت أكثر من عشرين شهراً بين الخرطوم وحركة قرنق لا تعتبر طويلة بالنظر إلى خمسة عقود من الحرب.
التوقيع أمس في نيروبي يؤشر لمرحلة مهمة في مسيرة السلام من خلال التصديق رسمياً على الاتفاقات التي تم التوصل إليها، وتلك خطوة مهمة تفيد في جانب منها في وقوف المجتمع الدولي على ما تم إنجازه من أجل الوفاء بالدور المنتظر من الأسرة الدولية لدعم هذا السلام وجعله أكثر جاذبية من خلال توفير الإمكانات التي تجعل من الممكن تجاوز الظروف الصعبة التي أفرزت الصراع.
ونشير بصفة خاصة إلى أن استمرار الحرب طويلاً أفرز أوضاعاً مأساوية على الصعيد الإنساني بسبب الانصراف عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وان الخسائر في هذا الجانب تستوجب جهداً دولياً يستطيع الانتقال بالناس في مناطق الحرب إلى السلام الحقيقي.