قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهينا أنا وأبوبكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجلسي عليه السكينة والوقار، وذلك في الموسم حين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل، فتقدم أبوبكر فسلَّم وقال لهم: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فقال أبوبكر للرسول صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عزٍّ في قومهم، وكان أبوبكر عالماً بالأنساب والشعر، وكان في القوم، هانئ بن قبيصة، والمثنَّى بن حارثة، والنعمان بن شُرَيك، ومفروق بن عمر وهو أفصح القوم وأبلغهم وكان أقربهم مجلساً من أبي بكر، فسأله أبوبكر: كيف العدد فيكم؟ قال: إننا لنزيد على ألف، ولن تُغلب ألفٌ من قِلَّة، فقال له: كيف المنعَةُ فيكم؟ فقال: عليها الجُهد، ولكل قوم جَدّ، فقال أبوبكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنَّا أشدُّ ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنَّا لنُؤثر الجيادَ على الأولاد، والسّلاح على الّلقاح، والنصرُ من عند الله، يُديلُنا مرَّةً، ويُديل علينا أُخرى، ثم قال لأبي بكر، لعلك أخو قريش، فقال أبوبكر: إن كان بلغكم أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو هذا، قال مفروق: لقد بلغنا أنه يذكر ذلك، ثم التفت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فجلس الرسول وقام أبوبكر يُظلِّه بثوبه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وان تُؤوني وتنصروني حتى أؤدِّي عن الله الذي أمرني به، فإنَّ قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذَّبتْ رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، قال مفروق: وإلى أي شيء تدعو أيضاً يا أخا قريش، فتلا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وتلا بعدها آيتين، فقال له مفروق، وإلى أي شيء تدعو يا أخا قريشٍ أيضاً؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا الرسول صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فقال له مفروق: دعوتَ واللهِ يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أَفِكَ قومٌ كذَّبوك، وظاهرواعليك، ثم جرى الحديث بينه وبين بقيّة القوم،وقد أجمع رأيهم على عدم التعجُّل في الاستجابة له حتى يظهر أمرُه وينجلي، وأخبره المثنَّى بن حارثة أنهم ينزلون بين أرضين مهمتين؛ اليمامة وصحراء السماوة، فاليمامة من قبل العرب، والسماوة من قبل مملكة فارس، وعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصروه من قبل جزيرة العرب فقط، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرَّدَّ إذْ أفصحتم بالصدق، إنَّه لا يقوم بدين الله إلا مَنْ أحاطه من جميع جوانبه.
واللقاء بتمامه موجود في كتب السيرة.
ولنا هنا وقفة قصيرة مع بعض ما ورد في هذا اللقاء التاريخي الجليل.
أولاً: هذا الإيمان الراسخ الذي دفع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى عناءٍ شديد كان يجده من عرض نفسه على القبائل العربية طلباً للنصرة والدّعم لنشر رسالة الإسلام في الأرض، ومع ذلك فقد كان يستهين بالعناء في سبيل الله.
ثانياً: هذه الرُّفقة الطيبة المؤمنة المتفانية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علي بن أبي طالب وأبوبكر الصديق الذي وقف يظلِّل بثوبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك تكون الرفقة الصالحة عوناً للإنسان على الحق.
ثالثاً: هذه الحجة الدَّامغة التي يحملها رسول الله إلى العالمين، ألا وهي حجة القرآن الكريم التي ترتفع عن مستوى كلام أهل الأرض كما أكَّد ذلك مفروق حينما قال:(فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولوكان من كلامهم لعرفناه).
رابعاً: هذا الوضوح الذي لا يدع مجالاً للشك في حرمة قتل النفس البشرية بغير حقّ، وحرمة البغي على العباد، بنصوص صريحة من القرآن والسنة.
إشارة:
مَنْ بغى ذاق في الحياة انهزاماً
ورأى الذُّلَّ يوم عرضِ العباد |
|