إن علم النحو ظل شغل العلماء والمفكرين منذ نشأ وهذا يدل على ما له من مكانة، لقد ترك الأوائل من اللغويين تراثاً نحوياً يدل على المجهودات الضخمة التي بذلوها في خدمة اللغة العربية وإعلاء شأنها، وتأليف الكتب في العلوم اللغوية كالنحو والصرف والمعاجم والعروض وفقه اللغة، ومن هؤلاء اللغوي الضليع (سيبويه) صاحب (الكتاب)، والمبرد صاحب كتاب (المقتضب)، وعيسى بن عمر الثقفي الذي صنّف كتابين في النحو يسمى أحدهما (الجامع) والآخر (الكمال) وفيهما يقول الخليل بن أحمد:
ذهب النحو جميعاً كله
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر
والخليل بن أحمد الذي استخرج علم العروض وضبط اللغة، وأملى كتاب (العين) على الليث بن المظفر, وتحفل كتب الطبقات والتراجم بأسماء عديدة في كل من الكتب التالية:
- (مراتب النحويين) لأبي الطيب اللغوي (ت 351هـ).
- (طبقات النحويين واللغويين للزبيدي) (ت 379هـ).
- (ونزهة الألباء لأبي البركات الأنباري) (ت 577هـ).
وتحتل تلك الكتب مكانة متميزة في تاريخ الدراسات اللغوية، وتحتوي على أعلام اللغة والنحو، والتطور التاريخي للتأليف في الطبقات والتراجم، وبنشأة بعض الظواهر في العربية كظاهرة (اللحن)، وأوائل النحاة وجهودهم في هذا المجال. لقد كان لمدرسة البصرة وإمامها الخليل بن أحمد ومدرسة الكوفة وإمامها الكسائي دور وأثر بارز وأعمال جليلة، وخلفوا الكثير من الكتب النافعة المفيدة التي تعالج أسس النحو وقضاياه، والمناهج التي ساروا عليها في دراسة الظواهر المختلفة. ولقد قال ابن سلام في طبقاته: كان لأهل البصرة في العربية والنحو عناية، وتعد مدرسة البصرة واضعة علم النحو، كما أن مدرسة الكوفة وأعلامها الكسائي والفراء وثعلب لهم قدم راسخة بمعظم القضايا والظواهر اللغوية وكانت لهم مدرسة فكرية لها الكثير من الآراء.
ونختم القول بقول أحد نحاة مدرسة البصرة: نحن نأخذ العربية عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها - ويقصد مدرسة الكوفة - عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ.وتفيض كتب بين ثناياها بالأعمال اللغوية لهاتين المدرستين، وما بذله الاعلام فيهما، وتعرضوا له من القضايا النحوية الدقيقة، وتناولوه بالبحث والدرس والتحليل، وإذا كانت مدرسة البصرة واضعة علم النحو فإن لمدرسة الكوفة دورها في النحو العربي وإن النظرية النحوية تواجهها مجموعة من التحديات وعلى النحاة العرب أن يقدموا ما قدموه من درس نحوي شامل ومتكامل للعربية دون اعتماد على جملة واسعة من النظريات تناسب كل واحدة منها الغرض الذي صممت له.
وبعد... فإن اللغة العربية وعاء الفكر ووسيلة التخاطب وهي أساس قوتنا يجب المحافظة عليها من الوهن والضعف، وفي هذا المقام فقد تحدث الكثيرون في هذا العصر عن صعوبات في النحو تتركز في الإعراب وفيما يظهر على أساليب العلماء وما تتعرض له الجملة العربية وعدم فهم بعض النصوص واختلاف العلماء - ولا بد من التجديد في التأليف وقضية الإعراب إلى غير ذلك مما يثار في الندوات ووسائل الإعلام.
إن قضية التجديد تتطلب المحافظة على اللغة وقواعدها مع العرض بطريقة ميسرة سهلة بغير أن تطغى على قواعد اللغة أو حذف بعض الأبواب والإعراب وغير ذلك مما يهدم اللغة ويجعلنا لا نستطيع قراءة كنوزها وتراثها الخالد. إن التجديد المطلوب هو المحافظة على الثوابت في اللغة وأن يرتكز على البناء والتقويم ومن علماء اللغة العربية.مع الاهتمام بتنمية المهارات اللغوية في مراحل التعليم العام وتوظيفها في تلافي الضعف اللغوي العام في مجال النحو والإملاء وبنية الكلمة والتركيب وإلى جانب ذلك فهناك اليوم أساليب غير عربية في كلام المتحدثين ووسائل الإعلام انتقلت إلى اللسان العربي عن طريق الترجمة أو التأثر المباشر كما كثرت الأخطاء اللغوية والنحوية واختطلت بها العامية - ولا بد من تهيئة السبل لعلاج ذلك مع الاهتمام بإعادة قراءة التراث النحوي لاستخلاص النظريات التي تحكمه وتلمس عناصر القوة والأصالة والإفادة من النظريات اللغوية المعاصرة في تحليل قواعد اللغة العربية بوعي مع مراعاة خصائص اللغة العربية والحد من تكرار الجهود في الدراسات النحوية والعمل على توحيدها وحل المشكلات التي تواجه اللغة العربية في ميدان البحث العلمي والتعليم وخدمة اللغة العربية نحواً وصرفاً ومعجماً.
(*)أمين عام دارة الملك عبدالعزيز الأسبق |