يذكر ساطع الحصري ان فكرة الوحدة العربية قد عرضت على الزعيم سعد زغلول وانه أجابها: بان الدول العربية تساوي أصفاراً، وما يغني جمع الأصفار إلى بعض، وعلى الرغم مما يبدو في هذا الرأي من عدم وجاهة، فانه يدعو إلى عدد من الأسئلة: هل الدول العربية فعلاً أصفار، وإذا كانت كذلك فهي أصفار بالنسبة إلى ماذا، والذين يرفضون ان تكون أصفاراً يراهنون على أي جانب يغيّر المعادلة من الصفر إلى الواحد مثلاً؟
تتميز اللعبة السياسية في العالم العربي بالتفريق بين الشعوب والأنظمة - الحكام، فحين نتكلم عن البلاد العربية يحلو لنا كثيراً ان نفصل بين الشعوب العربية وحكامها - أنظمتها، الشعوب العربية الطيبة، الكريمة، المليئة بالتضحية، والصدق، والإخلاص، والإيمان بالله، والذكاء، والولاء، والقناعة.
هذا الفصل أشعرنا - نحن الشعوب - بأننا ضحية مؤامرة كبرى، أوصلت العالم العربي إلى الحال التي هو فيها، وهيأ لنا البراءة من كل تبعات الموقف الراهن، كما برر لنا الرضا بالواقع، وعدم السعي لتغييره، والذي أصبح يعكس حقيقتنا، وذلك بتعليق المسؤولية، والأخطاء على غيرنا.. ومن هنا يصبح من المفيد السؤال عن وجاهة هذا الفصل، وسلامته: هل ينطوي على حال، يختلف فيه الحكام عن الشعب، أم أنه لون من الخديعة التي وقع فيها الشعب، ووافقهم عليها الرؤساء، حفاظاً على ما بقي لهذه الأمة من إحساس بالكرامة، وليكمل هذا الفصل باقي الخصائص الأخرى التي سيلحقها، كتمكنهم من الاستئثار بالمتع، والسلطة، وما يمكن ان يقارفوا من خطأ لا يجد الناس له مبرراً إلا فسادهم الكبير، والخطير جداً، في حين يتعفف الشعب عنه بناء على دينهم، ومروءتهم، السالفة الذكر، بالرغم من ان هذا الفصل ليس صحيحاً، فليس هناك اختلاف بين الشعوب، والحكومات، وهو لا يعدو أمنيات، أو محاولة كما سبق القول تجميل الذات.
هذه النتيجة لا تبدو في نص قرآني، يستشهد به أحد الذين يحبون الاعتذار للزعماء، وإنما تبدو أيضا من خلال تتبع الواقع العربي، فإذا نظرنا إلى شرائح المجتمع، وجدنا الأسلوب الذي يعامل بعضهم بعضاً من خلاله، يؤكد هذه الحقيقة، فالمثقف في موقع المسؤولية، سواء في الجامعات العربية، أو في المؤسسات الأخرى، يتعامل مع المثقفين، كما يتعامل صاحب المزرعة مع الأُجراء لديه، آمر وليس فوقه شيء، حتى إذا أعياه النظام اتخذ الدسائس، والمكايدات، والتحالفات السياسية، والقمع، والتسلط، وكل الأساليب التي يعيبها على الأنظمة قبل ان يكون جزءاً منها. واتخاذ الجامعة مثلاً ليس لأنها الصورة الوحيدة، وإنما لأنها المكان الذي ينبغي ان يشع النور للمجتمع، وان يكون موطن القدوة، والمثل.. هذه الحالة المتكررة في جميع مستويات المجتمع العربي، تكشف عن أن حالة الأنظمة، أو الهرم الأعلى للسلطة ليست سوى تكرار لنماذج أخرى في الهرم نفسه، لكن بموقع أعلى، وصلاحيات أكبر تمكنه من تحقيق نفوذ أكبر، وقدرة على الفاعلية أعظم.
وحين نتأمل علاقة الدول العربية بالدول الغربية نجد أنها تقوم على نوع من الطبقية، الدول القوية هي التي تمنح الأنظمة العربية شرعية الوجود، من خلال سيطرتها على مجلس الأمن الذي لا يضم أياً من الدول العربية، وهو ما يمكن من القول بان هذه الدول أنشأت تلك الأنظمة، وحمتها، أو على أقل تقدير ان هذه الأنظمة قامت بمباركة الدول الغربية، وهو ما يعني ان الدول العربية لا يمكن ان تقف في وجه الدول الغربية، كما يعني بصورة أخرى ان وصف (الصفر) الذي أطلقه سعد زغلول قبل ما يقارب 70 سنة، ينطبق على هذه الأنظمة، ويكشف مقدار وعي هذا السياسي المحنك في مرحلة مبكرة من التاريخ العربي، أو يكشف طريقة تفكير السياسيين العرب منذ ذلك الوقت.
هذه الحقيقة، أو ما يمكن ان نسميه انعدام الوزن أشارت إليه (كوندليزا رايس) صراحة حين قالت: ومتى كان للمنطقة حدود؟ وكأن العرب قد نسوا، وتريد ان تذكرهم بان هذه الحدود هي من صنع الاستعمار القديم: (الإنجليزي، والفرنسي)، والاستعمار الجديد يريد ان يصنع حدوداً جديدة.. العرب نسوا هذه الحقيقة، بالرغم من ان كثيراً من المهتمين بالسياسة يذكرونها بها خاصة عند الحديث عن العلائق التي تربط الأقاليم العربية بعضها ببعض، وجاءتنا هذه المرة من طريق آخر، وكأنها أداة ضغط، وتهديد، لهؤلاء الأصفار، وإشارة لاختلاف الأسياد الذين يعيدون صناعة الخريطة، والجغرافيا، وهو ما يعني بدوره عدم إمكانية رفض أية محاولة من قبل الأسياد للتدخل في إعادة تكوين المنطقة.
لقد كانت فلسفة الدول الكبرى بعد ان فشلت في الاستعمار العسكري، تتلخص بحفظ كمية من البشر، في مرحلة زمنية معينة، فاتفقت مع وكلاء لها يقومون بهذا الدور، قد يكونون هم أفضل المجموعة خاصة إذا ما قيسوا بأفراد آخرين خرجوا من الملعب مبكرين، ويؤمنون مصالحها في المنطقة، دون ان تهتم الدول الكبرى في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
ولم تكن الدول المستعمرة تريد أكثر من هذا من الأنظمة الحالية، وما كانت تتوقع ان يهيم العرب عشقاً بها، خاصة وان العربي يتلقن منذ الصغر ان الآخر الغربي هو سبب البلاء، وهو سبب إسرائيل وما حل به من نكبات، وأحياناً يزيدون كلمة (أذنابهم) وكأن العرب أذناب ورؤوس، وهم العالم الثالث، ومن هنا يأتي سؤال عما الذي يدفع الدول الاستعمارية - أمريكا إلى التدخل في هذه البلاد، أو تغيير سياستها تجاه هذه الدول؟ والاستغناء عن الوكلاء، أو فرض طريقة جديدة لتعامل هؤلاء داخل أوطانهم؟ أشعروا بان هذه الطريقة قد استهلكت، وأخذت عمرها الافتراضي، ومن ثم الأنظمة التي جاءت عليها؟ أم شعروا بان الشعوب قد اختلفت، ولم تعد الشعوب الأولى، وان بوادر الاختلاف قد ظهرت في التغيرات التي مرت بها المنطقة؟ أم أن هناك قوى جديدة في المنطقة قد ظهرت، وتريد الدول الاستعمارية ان تتحالف معها؟ أم أن ضميرهم نهض فبدأ يؤنبهم، كما نهض ضمير أوروبا تجاه ما فعلوه باليهود في القرون السالفة؟ أم أن هذه الدول لم تعد تكتفي بما تقدم لها الأنظمة، وتريد ان تصل بهذه المنطقة الى حالة لا يقبل بها أحد، يستوي بذلك الوكيل والموكل عليه؟
قد يكون الجواب واحداً من هذه أو قد يكون كلها، الأمر المهم ان السياسة تغيرت، وان أمريكا عقدت العزم على تغيير ملامح الشرق الأوسط.
هذا التدخل هذه المرة جاء عن عدة طرق: الاحتلال العسكري لبعض المناطق، والضغط على مناطق أخرى لإجراء إصلاحات معينة، لم تكن تحفل بها الأنظمة القديمة، هذا الإصلاح قد لا يتناسب مع الأنظمة التي نشأت على الفكر القديم، وهو ما سيؤدي إلى واحد من احتمالات أربعة:
1-استجابة هذه الأنظمة للقوى التي تستمد منها شرعيتها، والقيام بالإصلاح
2- عدم الإصلاح والتغيّر في هذه الأنظمة.
3 - عدم الإصلاح والمقاومة، وهو ما يؤدي إلى تغير قواعد لعبة علاقة الأنظمة بالقوى الخارجية.
4 - عدم الإصلاح، والانتظار حتى تنتهي ولاية بوش، وتزول العاصفة، أو حني الرأس أمام العاصفة حتى تزول كما في المثل العربي.
يظهر ان العرب اختاروا الحل الأخير، فقد أجّلوا القمة العربية، قمة الإصلاح، هذه القمة التي كان ينتظرها طرفان: الأمريكان، ولديهم مطالب محددة، والشارع العربي المفترض، الذي كان ينتظر هذه الإصلاحات منذ زمن، ولأنه لا أحد يهتم بالشارع العربي، فإن تأجيل عقد القمة، هو لون من إرجاء النظر في استحقاقات القمة، وجدول الأعمال الذي لدى الرؤوس، مما يعني تأجيل النظر في الإصلاحات، والمطالب الأمريكية، والعرب وهم يفعلون ذلك، يعلمون انه عن قريب ستبدأ الانتخابات الأمريكية، الأمر الذي قد يعني ذهاب الإدارة الأمريكية الحالية، ومجيء إدارة أمريكية أخرى ذات أجندة مختلفة عن الإدارة الحالية، الأمر الذي يلغي قيمة الإصلاحات، والبث فيها، ويجعل عقد القمة الدورية بمنأى عن المخاطر، الظروف الحالية، ويحيلها إلى مجلس دوري يتبادل فيه الأصدقاء التحايا، ويبثون فيه الأشواق، دون ان ينتظر أحد ماذا صدر بحق تلك القضايا، وهو ما يعني بالضبط تطبيق المثل السابق، حني الرأس أمام العاصفة المتمثلة بالإدارة الأمريكية الحالية، حتى تذهب، وهنا يرد عدد من الأسئلة: وهل هذه أول مرة يفعل العرب أو بعضهم هذه السياسة، هل العاصفة فعلاً ستذهب، بمعنى هل هذه القضية خاصة بالإدارة الأمريكية الحالية، ثم أخيراً هل العرب يظنون فعلاً ان العاصفة ستذهب، أم يظنونها ستهدأ ولو إلى حين؟
في تصوري ان هذه العقلية العربية السياسية ليست بعيدة عن العقلية التي صاغت المثل، ولذا وجدنا صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية، يراهن على خسارة بوش الأب في الانتخابات الأمريكية، وتغير الأجندة الأمريكية، وبدلاً من ان يستفيد من خطئه، ويبني وطنه، ويظهر إصلاحات جدية في نظامه، يتقوى بها أمام العاصفة القادمة، اكتفى بان ينسحب إلى داخله، ويظل يمارس الخطأ بينه، وبين وطنه حتى إذا جاءت الريح العاصفة وجدته كمن يستمتع بقضم أظافره تحت شجرة صغيرة لم يحرك ساكاً عن ذي قبل، وفي تصوري ان الموقف الحالي ليس بعيداً عن ذلك الموقف، فالعرب لا يزالون يراهنون على تغير الحكومة الأمريكية، دون ان يراهنوا على إصلاح الخلل الذي نفذت منه الإدارة الأمريكية، وهو الأمر الذي يفضي إلى السؤال الآخر هل العاصفة ستذهب، أو تهدأ لتعود من جديد كما فعلت من قبل؟ في ظني ان الرؤية المستقبلية للعالم الموجودة في أمريكا، والقائمة على فلسفة نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، لم تنته بعد، ولم تأت لتنتهي في غضون سنوات محدودة، ولكنها ستظل قائمة في أذهان المفكرين السياسيين، وصناع القرار، ولو خبت في ذهن بعض السياسيين الذين يرون ان هناك ما هو أهم منها، وهنا يأتي السؤال هل تخفى هذه الحقيقة على العرب، حين يعرضون عن الإصلاح انتظاراً للعاصفة ان تهدأ، أو يطمعون في المتعة بين العاصفتين؟
ذكر أبو عثمان الجاحظ (255هـ) في كتاب البيان والتبيين، ان الوليد بن عبدالملك هرب من طاعون أصاب دمشق، فكتب له أحد الوعاظ يقول: يا أمير المؤمنين، ان الله عز وجل يقول: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} فأجابه الوليد: ذلك القليل نريد.
هل هم أيضا يريدون القليل؟! أرجو ان يتخلص العرب من الاكتفاء بالقليل، والطموح بالكثير الذي يجعلهم هم وأقوامهم يعيشون حياة كريمة، من سادة العالم، وصنّاع القرار فيه، وان يساهموا وشعوبهم بالخروج من هذا المأزق التاريخي، الذي لا يهم من وضعهم فيه، بقدر أهمية ان لن يخرجهم منه أحد سواهم.
|