Saturday 5th June,200411573العددالسبت 17 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

فيها دفنت جثمان ذكرياتي!! فيها دفنت جثمان ذكرياتي!!
محمد بن عبدالقادر السويلم/ سكاكا - الجوف

المقدمة
سألني قلمي.. قال لمن تهدي ما كتبت؟
جاوبته!
الى من كتبتها من أجله!!
وأحس معاناتها..
من عاش فيها..
وتقلب بين أحداثها وتفاصيلها بكل ما فيها!!
فقط شاركته بذكرياته!!
تتخايل أمامي الذكريات.. تتراءى لي من بعيد.. تصول وتجول.. أجلس أمام شاشة عقلي لأرى أحداث أيام ولت.. انقضت.. صفحاتها انطوت.. أيام عالقة بالبال.. أيام فرح.. أيام وجع.. خليط من حياة.. خليط من مشاعر.. أيام لها ذكرى وخلود.. جميلة عذبة ندية.. حزينة مأساوية دامية.. منقوشة بالفؤاد المكلوم.. منحوتة على جدار الوجد المهموم.. مكتوبة بالدمع والدم قبل المداد.. ..مرسومة على ورقة فسفورية تعكس آمال وآلام تلك الأيام الخوالي!!
...أيام خبأت احداثها بين منعطفات اضلعي.. في شراييني وأوردتي.. أيام استقرت بالعقل والقلب.. رغم ماضيها.. رغم بعادها.. رغم تعبها.. رغم فرحها.. رغم ترحها.. رغم الطفولة!!
.. إلا أني أرى أنها ذكرى مجيدة لحياة أناس تستحق أن تخلد في تاريخ ذكراي..
أرى ذلك الماضي من خلال لوحة فنية خيالية زهت بألوان ناصعة وشاحبة بالوقت ذاته.. أنظر إليها كلما شدني الحنين الدفين.. والشوق الشائك.. او اجبرتني الخواطر والمواقف لاتذكرها!! عندها لا أجد نفسي إلا غارقاً في بحرها الواسع لأعيش حلماً مفعماً بلذة نفسية وفي لحظة يتحول ذلك الى زورق ذي أشرعة يمخر بي عباب الأمس لينقلني الى قريتي القديمة!! حيث عشت وعاشت أسرتي فيها ردحاً من الدهر...
عندها يسير اليراع حاملاً قلم الذكرى بثقل معاناته وبكل حيرة يسأل: ماذا اكتب اليك يا قريتي القديمة؟! باي نبرة.. بأي احساس.. بأي روح...
بألم!! أم بأمل!! بأحلامي وأمنياتي!! أم بعذابي واحزاني؟!! يا لها من سنين قضيناها معاً.. يا لها من أيام عشناها معاً.. في تلك القرية وذلك البيت!! والان وبعد مرور عشرين عاماً من الافتراق والاغتراب لا تزالين صامدة.. لا تزالين واقفة.. وفيّة.. تحمل بين طياتها اطلال (منزلنا) وتذكاراً (لوالدي المتوفى).
ويشدني الحنين وأعود.. نعم وأعود كي أرشف قطرات من عبق الذكرى.. واي قطرات تلك
.. قطرة لها شذا!!
.. قطرة لها أنين!!
.. قطرة لها رنين!!
.. قطرة لها صرخة!!
.. قطرة لها احتراق!!
.. قطرة لها دمعة!!
.. فعندما يحل الليل ضيفاً ثقيلاً على الكون.. ويلقي برداءة الحالك السواد.. وتبعث الشمس آخر خيوطها البرتقالية على اطلال بيتي القديم وقريتي الأقدم فإنها ساعات طويلة
.. عقاربها الرعب!!
.. دقائقها الحسرة!!
.. ثوانيها الحزن!!
.. تظل الدمعة الحارة ترافقني وأنا أنظر اليها.. الى كل ما فيها.. الى عهدها الأزلي النابض بالحركة.. وأرى كيف تحولت الى (جثة قروية هامدة مهجورة لتصبح مواطن للأشباح.. وبيوتاً لخيوط العناكب.. ومسارح ينعق فيها البوم!!)
كأني أمشي في طرقاتها بين بيوتها الطينية فيصيبني التعب والنصب فأستند على جدار طيني تفوح منه راحة الماضي!! ذلك الجدار الذي لا يزال يحتفظ بتماسكه عزيزاً رغم كبره وانحنى ظهره وانهيار سقفه.. رغم خيانة السنين له.. رغم وشاية طول الأمد عليه!!!
وفي لحظة غليان النفس وثورتها اجد أن قدماي تسبقاني مأمورة على الخطى.. لحظة إقبال وإدبار.. لحظة إقدام وتراجع.. لحظة ملامسة واقتراب.. يشاركني قلبي الرعب من خلال خفقانه المتلاحق.. تضيق أنفاسي حرجاً وكأني أصّعد الى السماء!
.. ترتعش أوصالي إجلالاً وإكباراً لجبروت ذكراي القهرية!!
.. هذا هو.. في مكانه جاثم.. يعاند القسوة.. يكابد السنين!
.. في صدره لوعة.. في زواياه حرقة.. في داخله يتم!
يحكي للدنيا ألف حكاية وحكاية!!
.. إنه بيتنا القديم هذه معالمه الشاحبة.. لم يكفّ عن البكاء كأم ثكلى فقدت صغارها.. ياله من موقف حزين.. يا له من انكسار في زمن مهين.. يا له من إعسار في وقت فاقة!! ها أنا أرضخ لمناد داخل نفسي وأضع رحال عقلي.. ومتاع فؤادي.. وحقيبة ذكراي بقصاصاتها الممزقة داخل ذلك البيت.. لأتذكر عهدنا الماضي!
.. عهدنا الفائت.. وأنظر كيف كنا وماذا أصبحنا!!
ها هم اخوتي جميعهم أمام ناظري.. بأعمارهم الصغيرة.. بحركاتهم وسكناتهم.. بأهازيجهم وقت المطر.. بضحكاتهم البرئية.. بمزحهم وجديتهم.. هنا لعبنا.. وهناك تمازحنا.. وفي هذه الغرفة رحلنا مع ليل السهر الطويل ملتفين حول المدفئة في ليال شاتية ليأخذنا الحديث المتبادل بين مؤيد ومعارض!!
.. تزاد بي الشقة عند أسبر غرفة والدي - رحمه الله - وأرى طيفه يناجيني (حاملاً اخيتي الصغيرة على عضده الايسر وهي تلوح بيدها نحوي تحييني والتي اختطفها القدر دون سابق انذار) وكأنه عاد للدنيا واصر ان يقابلني وفي هذا المكان بالذات ليسألني بلهفة وغصص الدموع تحبس مجرى صوته الرخيم.
.. عن اخوتي.. أين هم؟! ما صنع بهم البعاد! وما فعلت بهم الحياة! أي أرض تقلهم.. وأي سماء تظلهم..؟ يمد يديه لي فأندفع إليه مسرعاً كي احتضنه فأجد أني احتضنت الهواء فأختنق!! أجثو على ركبتي باكياً مرتجفاً غزارة ألم ينزف من صدري.
.. أشوح ببصري الى زوايا البيت وأركانه.. لي في كل زاوية قصة.. ولي في كل ركن حكاية.. أتذكر تلك الأيام والليالي التي ربطت بين قلوبنا وجوارحنا وجعلت من الأمل شعاعاً يرى بريقه في أعيننا.
...من خلال تلك الشرفة أشرفت على قريتي.. على عالمي الصغير.. أناجيها.. أحاورها.. اعاتبها وتعاتبني.. أنفض غبارها المتراكم وتمسح دموعي المتساقطة.. فكم عانت قريتي عندما لفظها الزمن ورماها في قارعة النسيان؟!! ومع ذلك لا تزال تحتفظ بالشيء الكثير من وفائها ودفنها.. بعد ان اشعلت في ظلماء الأيام شمعة لا يمكن ان تنطفئ ابدا.. لتبقى ذكرى ليس لها ميلاد ونهايتها ان (تظل عالقة في رحم السنين)...
وفي عمق الذكرى تترنح لحظة صمت شاردة.. إذ تطفأ مشاعل القرية في هجعة الليل البهيم.. لاشعل الفتيل الذي ينطفئ في لحظة اشتعاله.. فلا أجد إلا أن أصعد الى سقف الدار لأكمل السهر على ضوء القمر فما أن القي بجسدي المنهك واضع يدي المغبرتين تحت رأسي الاشعث حتى يغلبني النعاس فأغط في عمق السبات!!!!!
فلا أصحو إلا على مس حرارة شمس ليوم جديد...
** وفي لحظة يتغير المكان والزمان فألتفت مفزوعاً مذعوراً على (رنين الهاتف الجوال) لاخرج من حديقة ذكراي بلا شيء!!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved