لقد شاع في هذا العصر الحصول على المال عن طريق شراء سلعة بالتقسيط (كسيارة مثلا)، ثم بيعها نقدا، وهي طريقة ليست جديدة، بل هي معروفة في السابق بمصطلح (التورُّق) أي: الحصول على الورق وهو الفضة، وهو النقد الشائع في ذلك الزمان، والتورُّق ليس خاصا بطريقة التقسيط، ولا بسلعة بعينها، فهل التورق كالقرض الربوي لا فرق بينهما؟ أم هو عملية مستقلة تختلف عنه في مضمونها وأثرها؟
مثال التورُّق: أن يأتي شخص (ناصر) يريد الحصول على مال من أجل سد حاجته المالية، أو بقصد استثمار المال، أو لغير ذلك، فيشتري من شخص آخر (صالح) سلعة، ولنفرض أنها سيارة إلى أجل أو بالتقسيط - لشيوع هذا الأمر في السيارات الآن - وليكن اشتراها بخمسين ألف ريال، ثم يأخذ (ناصر) هذه السلعة (السيارة)، فيبيعها بطريقته على شخص آخر (خالد)، بحيث لا يكون هو البائع الأول أو متواطئا معه، فيحصل بهذا على المال نقدا، مع التسديد مؤجلا أو مقسّطا، ومن الطبيعي أنها قد حسبت عليه بالتقسيط بأكثر مما باعها به، فعلى هذا قد يكون باعها مثلا بأربعين.
كثيرون قالوا: ما الفرق بين الحصول على المال بهذه الطريقة، وبين أن يأتي هذا الشخص (ناصر) إلى البائع (صالح)، فيأخذ منه المال أربعين ألفا ويردها عليه خمسين ألفا؟ لأن قصده المال، فالسلعة صارت على هذا حيلة.
والجواب عن مثل هذا الإشكال هو أن الصورة بين معاملتين في الظاهر قد تتشابه، ولكن الحكم مختلف لوجود فروق مهمة قد لا يتنبه لها البعض.
ونحن لو نظرنا إلى معاملات كثيرة لوجدنا هذا التشابه، فمثلا عقد النكاح الصحيح وعقد النكاح الفاسد، بل حتى الباطل يتشابهان جدا في بعض الصور، فلو جاء مأذون النكاح ليعقد لرجل على امرأة بحضور الولي والشهود وتوفر جميع الشروط، ولكن المرأة لم يبق من عدتها من زوجها السابق سوى يوم واحد، لاعتبرنا هذا العقد باطلا، مع أن صورته هي صورة العقد الصحيح، فالمأذون لا يمكن أن يدرك سبب البطلان إلا بسؤال المرأة.
ففي المثال السابق وهو شراء السيارة بالتقسيط وبيعها في الحال للاستفادة من ثمنها يظن البعض أن السلعة لا أثر لها، وهذا غير صحيح، فالشارع له قصد بوجود السلعة وتحويل صورة المعاملة من المال بالمال إلى دخول سلعة فيها، وأوضح هذا بما يأتي:
1- في الحديث الذي في الصحيحين عن عقبة بن عبد الغافر، أنه سمع أبا سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: (جاء بلال إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بتمر برني، فقال له- النبي صلى الله عليه وسلم-: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: أوّه أوّه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره)(1)، وفي لفظ المسلم: (فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت).
ففي هذا الحديث ألا يمكن أن يقول قائل: ما الفرق بين الصورتين:
الصورة الأولى: أخذ صاعا من التمر الجيد (كالسكري مثلا) وأعطاه صاعين من تمر أقل (كالشقراء).
الصورة الثانية: أخذ منه دراهم (مثلا خمسين ريالا) وأعطاه صاعين من التمر الأقل (الشقراء)، ثم اشترى منه أو من غيره بالدراهم (الخمسين ريالا مثلا) صاعا من تمر جيد (كالسكري).
أي في النهاية رجعت هذه الصورة إلى الصورة الأولى، ومع ذلك حرم النبي -صلى الله عليه وسلم- الصورة الأولى، وأباح الثانية، وهذا يدل على أن القصد في الحصول على صاع من التمر الجيد لا مانع منه، لأنه قصد مباح، وإنما كان إنكار النبي- صلى الله عليه وسلم- الوسيلة المحرمة، فإذا استبدلت بوسيلة صحيحة فقد زال المحذور.
وكذلك الشأن في التورّق فإن القصد في الحصول على المال قصد مباح، فلا مانع منه، ولكن لابد أن يكون بوسيلة صحيحة، وليست محرمة كالقرض الربوي.
2- في مسألة شراء السيارة بالتقسيط تفترق عن الاقتراض الربوي من وجوه، أهمها ثلاثة وجوه جوهرية:
أ- إن دخول السلعة قد حول العملية من مال بمال إلى مال بسلعة، وهذا بحد ذاته مهم في حركة الاقتصاد، فما الفائدة الاقتصادية للبلد وللدولة في أن يستثمر المقرض الربوي ماله بإقراضه أربعين ألفا ليأخذها خمسين ألفا؟
أما دخول السلعة فقد حركت الاقتصاد، إذ حصل شراء السلعة من (صالح)، ثم باعها على (ناصر)، و(ناصر) باعها على (خالد)، وهذه الحركة لها أثرها الاقتصادي الذي لا يخفى.
ب- إن (صالحا) إذا لم يتعامل بهذه المعاملة، وهي أن يشتري سيارة ويبيعها ليأخذ خمسين سيجد أن العملية الأخيرة (مال بمال)، أسهل وأيسر، وأضمن له، فيستمرئها ويركن إليها، ويكون استثماره الأهم - وربما الوحيد - هو إقراض الناس بفائدة، حيث لا يحتاج إلى كبر عناء بسبب ذلك، فيتحول المستثمرون من الاستثمارات النافعة التي تخدم المجتمع وتساهم في بنائه من المشروعات الصناعية والزراعية وتبادل السلع وغير ذلك، إلى هذه العملية الميتة التي تقتل الإبداعات الاستثمارية وتحولها إلى ركام من الأموال التي تدور بالربا فقط.
ج- إن (ناصرا) المحتاج إلى المال حين يأخذ القرض الربوي قد ضمن الخسارة لا محالة، إذ هو يأخذ أربعين ألفا، ويردها خمسين ألفا، بخلاف الصورة الأخرى كشراء السيارة بالتقسيط ويبيعها في الحال، فالخسارة غير مضمونة، أي أنه حين يشتريها بخمسين ألفا يحتمل أن يبيعها بأربعين ألفا، ويحتمل أن يبيعها بأكثر من ذلك، لأنها سلعة قابلة للزيادة والنقصان، وهذا فرق مهم، وإذا كان الواقع مثلا أن السيارة الجديدة قد لا يكون هذا الاحتمال فيها قويا، غير انه موجود، هذا من وجه، ومن وجه آخر أن هذا الأصل متحقق في صور كثيرة.
فمثلا السيارة المستعملة قد يشتريها البعض حين يحسن البحث بخمسين ألفا مؤجلة، ويبيعها في الحال بخمسين ألفا، فيكون قد حصل على سيولة دون أن يخسر، وهذا مشاهد وواقع، لذلك لو خرجنا عن السيارات إلى أسهم الشركات فإنها قد ترتفع فتزيد عن قيمة شرائها المؤجل، كذلك العقارات وغيرها..
إذن السلع شأنها شأن آخر، ومن الخطأ إلغاء اعتبارها وأثرها.
إننا حين نتحدث عن بيع التقسيط كمثال للتورّق لا يعني أننا قبلنا بكل ما يحدث في الواقع من بيع التقسيط، بل ولا كل ما يسمى تورقا، وإنما نعني به التورق الصحيح الخالي من المخالفات الشرعية، ولعل الحديث عن مثل هذه المخالفات نتناوله في مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
( * ) الأستاذ المساعد بقسم الفقه بكلية الشريعة بالقصيم
(1) البخاري في كتاب الوكالة. باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا فبيعه مردود (2145)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل (2985).
|