الخضرمة الفنية يمتلكها من طال عمره واستمر عطاؤه ، وقد تكون نقمة على صاحبها حين لايمتلك آليات الفعل والتفاعل .. والقرشي الذي نبغ في سن مبكرة ، ولما يكن كمن قيل فيه :
مازال هذا الغلام يهذي حتى قال الشعر وإنما ولد شاعراً وعاش شاعراً وسيموت بشراً ليبقى شاعراً ، كما الخالدين . صنفه النقاد من الجيل الثاني والتمرحل رؤية تقريبية كالخطوط الوهمية عند الجغرافيين ، غير أن الدخول في عوالمه الشعرية تكشف عن نسيج متجانس يتغير دلالياً بتغير المواقف والظروف والأحوال .
ولكن نبضه الشعري ذو نكهة واحدة ، والرومانسية التي يحشره فيها بعض المتسرعين من النقاد فرضتها ظروف عصيبة يمر بها العالم كله والعالم العربي على وجه الخصوص ، ومع الالحاح في طرح هذا المصطلح لم يستطع أحد من المنظرين تقديم تعريف جامع مانع يحدد المقتضى والمحال للرومانسية ومن الجناية الكبرى على القرشي ان نجمع كل بيضه في سلة الرومانسية.
نعم عنده نفس رومانسي في بعض أعماله ، ولكنه نفس لا ينطلق به من المهد إلى اللحد ، وعالَم القرشي الشعري لاتجوز معه الاطلاقات إنه عالم متعدد الأحوال والمستويات والاتجاهات ، وحتى الذين كتبوا عنه وأطالوا الكتابة أخذتهم جاهزيات الأحكام وقالوا عنه ما يصلح قوله لغيره من الشعراء . فالجاهزيات والعموميات لايمكن ان تكشف عوالم شاعر مثل حسن عبدالله القرشي والقول ب (أبوليّته) كالقول ب (رومانسيته) ، القرشي شاعر ومن شهود العصر ، وقد عاش المشاهد بوعي وثقافة وتقدم إليها ب (موهبة) و(قضية) و ب (إمكانيات) ثقافية ولغوية ، وقال الشعر ، وليس لدينا اعتراض على أن يرجم الآخرون بالغيب حول وثائقه الإبداعية ، ليقولوا:
إنه (أبولّي) وليقولوا إنه (رومانسي) ، وقد يقول آخرون إنه غير هذا وذاك والشاعر حين تكثر (شوارده) يختلف الناس وقد يسهرون من جرائها ، ومن الخير للقرشي ومحبيه ان يناموا ملء جفونهم ، فما عادت النصوص الشعرية ملكاً لأحد بعينه ، إنها تدخل عوالم (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة).
الشعر بوصفه أصلاً للقرشي ، والآراء للآخرين وليس القرشي ولامريدوه ملزمين بالكينونة كما يشاء الآخرون ، وتجربة القرشي تجربة ثرية ، ومراوغة وعميقة ومتعددة المستويات والأحوال والقول فيها يتطلب توفير الجهد والوقت ، والشيء الذي لا أتردد في قوله ان القرشي شاعر كبير ومتمكن ويعيش حضوراً فاعلاً ، ولو أتيح لي الدخول المتأني في عوالمه لقلت ما أعتقد دون ان يكون لعلاقات الود والتقدير أي دخل في ذلك.
لقد قرأت القرشي في فترات متباعدة والتمست في شعره ما كنت في حاجة إليه ، ولم تكن لي إلمامات جادة فيما بعد ، ومازلت أعد نفسي وأمنيها بدراسة معمقة وشاملة ، فالقرشي من الكفاءات الشعرية المتميزة التي لايجوز تركها للأقلام المجاملة أو المتحاملة ، ولابد والحالة تلك أن تكون للقرشي خصوصية فنية ولغوية وموقفية لا تفصله عن شعراء جيله ولكنها لا تدعه دون خصوصية يعرف بها.
|