كانت القرى في مختلف أنحاء المملكة تعج بالسكان بعيد توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز- رحمه الله-، وجاءت سنيات أكلت الأخضر واليابس وحدثت مجاعة جعلت الأكثر يهاجر إلى الرياض من أجل الحصول على القوت من مضيف الملك عبدالعزيز المسمى (قصر ثليم) الذي جعل في البطحاء لتقديم الغذاء مجاناً للمتضررين، ومع انتشار التعليم بدأ الناس يهجرون القرى إلى المدن، ويهاجرون من أجل تعليم أبنائهم فيها لعدم حصول الفرصة في القرية، ثم بعد انتشار الكهرباء انزاحوا ليلاحقوا الكهرباء الذي يجلب الجو البارد والماء البارد لهم، ولما جاء التلفون ساعد على مزيد من الهجرة أيضاً، ومع تراكم الزمن ومخرجاته تضخمت المدن حتى صارت أكبر مما توقع المخططون، والسبب بسيط جداً، وهو تركيز الخدمات المهمة في المدن، كالتعليم العالي والمستشفيات المتقدمة وفرص العمل.. إلخ. ومن هنا بدأ موت القرى.
أهملت النخيل الوارفة في القرى، وماتت أشجار الأترج البلدي وعرائش العنب، وصارت ممحلة بعد الخضرة، لأن كبار السن ماتوا، أما أولادهم فتركوها ورحلوا للمدن، لكن الشيء اللافت للنظر الذي هو ظاهرة أصبحت واقعاً في الوقت نفسه هو أن أصحاب النخيل في الهجر والقرى بدأوا يعودون لها ويقومون بإحيائها من جديد، فالآبار التي كانت يابسة الرحم أصبحت ذات ماء على قدر ما تنتج، والنخيل التي سمقت إلى الأفق وتهشمت، عادت للحياة من جذورها، أما مكائن الديزل التي تجلب الماء من الآبار العادية التي كنا نسمع ضباحها، ونحن أطفال فقد عادت بعد أن كبر الأطفال.
والآن ندم كثيرون من أهل الهجر بالذات الذين كانوا لا يقيمون وزناً لشيء اسمه الزراعة أو امتلاك الأرض الزراعية على أطراف الأودية التي بها ماء، واكتفوا ببيت من الطين أكله الزمن فصار أثرا بعد عين.
وبما أن للقرية نكهة وجمالا وهدوءا، فقد عاد كثيرون من أهل القرى لها، خاصة الذين لديهم ما يسمى بلهجة القرويين (حيالة) أي مزيرعة صغيرة تكفي لقوت أسرة، وأحيوا تلك الحيالات حتى أصبحت تنتج ما يحتاجون من خضر وفواكه بعيدين عن الكيماويات والهرمونات، وصار يوم الخميس والجمعة في القرية بدلا من المدينة، بل إن بعضهم حاول نقل أسرته بأكملها للقرية، لكن لا جامعات بالقرى أو قربها، ولا معاهد فنية، أو كليات متوسطة تضم أبناء القرى لذلك تجد أن من يعود إلى قريته هم من كبار السن الذين تقاعدوا وتزوج أبناؤهم واستقلوا عنهم.
من هنا يبدو الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الجهات المخططة للبنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ لو أن الله قدرلهم ذلك الحين تكثيف المعاهد الصناعية في القرى والهجر والمدن الصغيرة، لكان لدينا الآن عمالة مدربة جداً، ثم لحفظت القرى أبناءها تحت إشراف آبائهم وتوجيههم بدلا من أن يأتوا للمدن ويعيشوا كمجموعات في شقق مفروشة دون رقيب، وقد يكملون تعليمهم الجامعي، أو قد يضيعون.
ما زال في الوقت بقية لأن يخفف الضغط على المدن، وتنشر المعاهد الفنية الصناعية بالذات في القرى، وكذلك الكليات المتوسطة التقنية، عندها سنكتفي ذاتياً من العمالة ونشجع أبناءنا على مواصلة التعليم بين أهلهم وذويهم، وتحت نظرهم وبقربهم.. متى نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ الأمر أسهل مما يتصوره المخططون.. والله المستعان.
فاكس 2372911
|