عندما يتحدث المسئولون عن الإرهابيين، وأنهم لا يعرفون لهم هدفاً ولا مطالب.. فإن هذا له ما يبرره تاريخياً وحاضراً.. ففي الحاضر يدرك المراقب لواقع الحال، أن هؤلاء الأحداث والمراهقين، الذين يساقون لهذا العمل، لابدّ أن يكون وراءهم: أيدٍ خفّية تكنّ عداوة لدين الله سبحانه وتعالى الحقّ، وهو الإسلام وحقداً دفيناً، وكراهية لا تصدر إلا من قلوب مريضة، تشبه قلوب اليهود في المدينة المنورة، عندما وصلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مهاجراً، فأصبحت قاعدة إسلامية، التأم فيها شمل المسلمين، بعد أن هاجروا إليها: مثل ما أخبر الله عنهم في سورة المائدة: بأنهم أشد عداوة من المشركين عبدة الأصنام، للذين آمنوا.
فاتفق معهم المنافقون الذين أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- والدين الذي جاء به من ربه، حيث فضح الله الطرفين - اليهود والمنافقين - في آيات كريمات من كتابه العزيز، وبيّن سبحانه أن بين النفاق وكفار اليهود من أهل الكتاب، رابطة قوية، بالكيد لدين الله، وعداوة أهل الإيمان، يعملون من أجلها في الخفاء، لنصرة باطلهم، والكيد لأهل الحقّ، حتى أصبحت هذه الرابطة بمثابة الأخوة، والتعاهد على وضع المكائد، والتشديد في ذلك، ووعد بعضهم لبعض بالصدق ظاهراً، وبالكذب باطناً لجبنهم، وخسة طبائعهم يقول سبحانه في سورة الحشر:{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }(11)، فهدفهم واحد، وغايتهم مشتركة.
إنها رابطة في الباطل، وتعاون على الشر والفساد، لأن الطرفين قلوبهم مريضة، وقد أظهر فتنتهم عبدالله بن سبأ - ابن السوداء اليهوديّ - فأشعل الفتنة في عهد الخليفة الثالث: عثمان- رضي الله عنه- فقتلوه وهو يتلو القرآن، بعد أن حزبت الأحزاب عليه ظلما وعدواناً، فكانت أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة.
فانكسر بذلك باب الشرّ والفتنة، كما أخبر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، في حديث بئر الخاتم، الذي جاء فيه لمّا استأذن عثمان- رضي الله عنه-، بالدخول، قال عليه الصلاة والسلام لبلال:( إإذن له على بلوى تصيبه).. وأخبر- صلى الله عليه وسلم-:(أن بمقتله ينكسر باب الشرّ والفتنة).
ثم تلا ذلك ما جرى بين الصحابة، في موقعتي صفّين والجمل، حيث رفعت المصاحف بطلب تحكيم كتاب الله، ولكنه كما قال علي- رضي الله عنه-:(حقّ أريد به باطل). لكن المسلمين سكتوا عمّا حصل بين الصحابة، وقالوا: نترضّى عنهم جميعاً، ونسأل الله لمصيبهم الأجر، ولمسيئهم المغفرة..
ذلك أنها فتنة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قد أخبر عن الفتن كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان أمين سرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حيث اعتزل ما جرى بين الصحابة، كما اعتزلها غيره من فقهاء الصحابة.. حيث إن الفتنة إذا حصلت، لا يعرف القاتل لماذا قَتَلَ؟ ولا يعرف المقتول فيم قُتلَ.
وهذا ما يجب على المسلم العارف بدينه، الخائف من عقاب رَبّه: لأن الفتن فيها ظلم للنفس، وتعدّ على الآخرين، واعتداء على الحرمات، ونهب للأموال، وقتل لأنفس بريئة: سواء كانت أنفساً مسلمة أو ذمية مستأمنة، والله جل وعلا توعد من قتل مؤمناً متعمداً، في سورة النساء بأربعة جزاءات، كل واحد منها يقشعر منه بدن من في قلبه ذرّة إيمان: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
وإنّ من أشعل نار هذه الفتنة، الذي وقع فيها من وقع، قد زاد سعيرها، وحرص على تغذية نارها حتى لا تنطفئ، ويفسد مخططهم، حيث باض فيها الشيطان وأفرخ مع أعوانه، الذين أبان الله في كتابه الكريم، من أعمالهم السيئة، ونواياهم الخبيثة، ما يجعل ذلك شامة في مفارقهم، يعرفهم بها أهل الحق في كل زمان ومكان، لأن في قلوبهم مرضا، وفي جوانحهم حقدا دفينا وعداوة، يأبى الله سبحانه إلاّ أن يخرج أضغانهم، وعرفها رسوله- صلى الله عليه وسلم- في حياته الكريمة، وبقيت صفاتهم وأعمالهم التي تدلّ عليهم، يستدل بها أهل الإيمان ليميزوهم عن غيرهم، كما قال سبحانه:{وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }(30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمدآية30-31)
لكن ماذا أفرخت هذه الفتنة، بعد التفرق وما تبع ذلك: برز الخوارج الذين ابتدعوا ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي، واحتار في أمرهم عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-، مع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبر أمّته ببعض صفاتهم: منها (أنهم من جلدتكم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، حدثاء الأسنان، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرمّية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم قتل عاد).
وأخبر- صلى الله عليه وسلم- أن رئيسهم ذو الثّدية، أي أن في أعلى عضده ما يشبه ثدي المرأة..
ولما خرجوا على عليّ- رضي الله عنه-، وكفروا أهل التحكيم، ومن رضي بالتحكيم.. اجتمعوا في النهروان، فصار عليّ- رضي الله عنه-، يرسل إليهم ويناشدهم، أن يبيّنوا ما هو هدفهم، وماذا يريدون، ويطلب منهم المناقشة ومداولة الأمر، وقد أوضح ابن كثير- رحمه الله- في كتابه: البداية والنهاية، وابن الأثير في كتابه: الكامل، والطبري في تاريخ الأمم والملوك، ما دار بينهم وبين علي رضي الله عنه..
ولما رآهم علي لا يفصحون عن رأي، ولا يوضّحون رأياًَ، ولم يكن لهم مطالب معيّنة، وما أشبه الليلة بالبارحة، وهذا العمل الإجرامي يتكرر في كل زمن ومكان، ويطلبون الإفساد وشقّ الطاعة، تعمداً وعقيدة، حيث ينساقون خلف الأيدي الخفّية التي تديرهم، وهم لا يعلمون: إن هم إلاّ كالأنعام، بل هم أضلّ.. وكان من ضلالهم تكفير بعض الصحابة، وقتل علي، والسعي في قتل غيره.
فكان علي رضي الله عنه: يدعو ربه ويقول اللهم أرني فيهم آية، وهذا من ورعه- رضي الله عنه-، مخافة أن يقاتل مسلمين حقاً، مع أنهم هم الذين رفعوا السلاح عليه.. حتى أرسل إليهم عبدالله بن خبّاب بن الأرتّ التابعي الجليل- رضي الله عنه- أما والده فهو من الصحابة الأجلاّء، فتحاور معهم، وقالوا له: حدثنا عن والدك، وما سمع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فجاء لهم بحديث الخوارج الذي مرّ بنا.. فادركوا أنه يعنيهم.. فذبحوه ذبح الشاة على ضفة النهر، فقال عليّ: اعطونا من قتله حتى نقتله به: النفس بالنفس.. فصاحوا كلّهم جميعاً: كلنّا قتلناه.. فتوكل على الله عليّ وهجم عليهم ودارت معركة قُتلُوا فيها إلاّ من هرب.. وأخبره أصحابه عن زعيمهم ذي الثديّة.. أنه مقتول، فوقف عليه للتأكد، ولم يسعه إلا أن يسجد لله شكراً، بأنه لم يقاتل مسلمين موحّدين.
( للحديث صلة)
مقتل بن الأشعث:
عبدالرحمن بن الأشعث من شجعان الخوارج ودهاتهم، بعد أن فتح بلاد الترك، صانع ملكهم، (رتبيل) فزين له الخروج على الحجاج، وخلع عبدالملك، ذكر ابن كثير في حوادث 84هـ قائلاً: وفيها مهلك عبدالرحمن بن الأشعث الكنديّ، وذلك أن الحجاج كتب إلى (رتبيل) ملك الترك، الذي لجأ إليه ابن الأشعث بعد انهزامه من جيوش الحجاج يقول له: والله الذي لا إله الاّ هو لئن لم تبعث إليّ بابن الأشعث، لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل، ولأخربنها.
فلما تحقق الوعيد من الحجاج، استشار في ذلك بعض الأمراء عنده، فأشار إليه بتسليم ابن الأشعث إليه، قبل أن يخّرب الحجاج دياره، ويأخذ عامّة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه، ألا يقاتل عشر سنين، وألا يؤدي في كل سنة منها إلاّ مائة ألف من الخراج، فأجابه الحجاج إلى ذلك.
وقيل: إن الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين، فعند ذلك غدر (رتبيل) بابن الأشعث فقيل: إنه أمر بضرب عنقه صبراً بين يديه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقيل: بل كان ابن الأشعث قد مرض مرضاً شديداً، فقتله، وهو بآخر رمق.
والمشهور أنه قبض عليه، وعلى ثلاثين من أقربائه، فقيّدهم في الأصفاد، وبعث بهم مع رسل الحجاج إليه، فلما كان ببعض الطريق، بمكان يقال له الرّجح، صعد ابن الأشعث، وهو مقيّد بالحديد، إلى سطح قصر ومعه رجل موكل به لئلا يفرّ، وألقى نفسه في ذلك القصر، وسقط معه الموكل به فماتا جميعاً، فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث، فاحتزّه، وقتل من معه من أصحاب ابن الأشعث، وبعث برؤوسهم إلى الحجاج فطيف برأس ابن الأشعث في العراق، ثم بعثه الحجاج إلى عبدالملك، فطيف برأسه في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبدالعزيز بمصر فطيف برأسه هناك، ثم دفنوا رأسه بمصر وجسمه بالرّجح (9-73).
|