استسلمت ام خالد للاقناع المصطنع وهي تحاول طرد الشبح المخيف الذي يتراقص في مخيلتها وهي ترى جو المعركة المتستر بالظلام والمشحون بالتوتر والاعصاب المشدودة.. وخالد يقف في صمت الطائعين منتظرا أدنى اشارة من القائد ليزج بنفسه بين أمواج البشر مندفعين لفوهات المدافع وألسنة النيران.
وما كاد خالد يلمس من والدته بعض الرضا في الانخراط بالسلك العسكري حتى كان اسمه في رأس قائمة المؤهبين لمواجهة العدو على الحدود.. ومرت الايام يسودها السلام وهو ينتظر بفارغ الصبر أيام الامتحان، وكلما آوى للمنزل يتردد على مسمعه هذا السؤال: اما زالت الاحوال في سلام يا ولدي؟ ويأتيها الجواب: نعم يا أمي ولكني أريد ألا يدوم لاختبر معدني بمحك من حديد الصواريخ وشظايا القنابل.. وتعرض الام بوجهها الاصفر المكسو بالتجاعيد وكأنه كُتب عليها الخدمة الطويلة على راحة خالد. وترسم في خيالها محاكمة للصبي المندفع وكيف يحتمل أعباء حرب ضارية مع عدو عنيد، ام كيف لجسمه الضعيف والمفتقر لرعايتها كل الوقت ليكون وقودا لقطار النصر، وما جدوى كلمات رنانة تصرخ بها الحناجر على نبرات مملوءة بالحماسة للاشادة بحياة البطل وإقدامه، وماذا يفيدها ولو سُطِّر اسم خالد على صفحات كل تاريخ بمداد من ذهب.
امَّا منيرة، ابنة خاله، والتي تشاركهم سكن المنزل، فليس خالد بحاجة لمعرفة تأييدها او عدمه، وهو الذي يقرأ في بريق عينيها اللامعتين كل سر تخفيه وراء رأسها الصغير، جاعلا منه مادة للعزيمة والاصرار على النصر مهما كلف الثمن، ولسان حالها يقول: ما أجملها من اشراقة يوم سعيد ينهض فيه خالد مودعاً اياها الى أرض المعركة بنضرة وراءها العهد الوثيق.. وبينما الام منهمكة بالصلاة والدعاء ليحفظ الله خالد، الذي اشتبك مع منيرة في نقاش حول إحدى النظريات العلمية في جوّ يسوده الراحة والهدوء، اذ برنين جرس التليفون ينتشر في سماء القاعة قاطعا هذه الغفوة، وتركض منيرة لتسابق سعيد على فتح الباب في الوقت الذي ارتفعت فيه ضحكته.. فتنتبه للغلطة وتعود لترفع السماعة في خجل فيندفع الصوت المخيف بخشونة زائدة (امر يهم خالد).. وتكاد تسقط السماعة من يده وتتصارع على اعصابه فرحة الحلم الذي طالما وضعه أمام عينيه وصورة أرض الحدود وهي تمطر بالقنابل وتزحف على ميدانها الدبابات في سباق لقلب الوطن، وما كادت افكاره تهضم هذه الاحاسيس حتى استقرت برأسه كلمات القائد المتحمسة (المعركة).. وعلى جناح السرعة ينطلق صوب الخارج مخلفا كلمة تعثرت على شفتيه ببطء: الى اللقاء يا أمي وأنت يا منيرة.. وبدأت المعركة ومن خلال موجات الاثير راحت الانباء المتضاربة تتزاحم على الآذان وتتلقفها مسامع الام بِنَهَمٍ زائد وهي تحتضن المذياع بحنو غريب.. وتتابعت الاخبار دون تفصيل ولا يخفى تطعيمها بعنصر التمويه وتغذية المعنويات.. فبعد معركة طويلة لاتزال الانباء الواردة تبشر بسلامة جميع الجنود مما افقد ثقة الام بصحة ما تسمعه.. وفيما كانت تندفن تحت الاغطية هروبا بيقظتها عن الواقع الأليم كانت منيرة تذرع ارض الغرفة بخطوات منتظمة وكأنها تعزف ألحان النصر لاغنية ترقص على شفتيها منذ زمن بعيد، وتعلو بهامتها الى الافق لتسع اللحن.. خالد الذي تجسد في خيالها بطلا يتأبط ذراعها بكل احترام ويخوض بها ساحة الحشد الكبير من البشر، والذين اجتمعوا لتكريمه وأعينهم تهديهما نظرات الاعجاب بوسام الشرف الذي يتربع على رأسه في هدوء وتعالٍ.. وكأن صدى الهمسات تمسح آذانها برفق: وراء كل رجل عظيم امرأة.. واحيانا ترى سواعده القوية تحطم الاعداء وتجندل الجثث.
اما خالد الذي وقف ينفض اثوابه من غبار المعركة ويسجل الصور الحية عن اجمل امنية تحققت في الحياة فقد جنح به القدر ليرتاح على سرير أبيض اثر جراح بسيطة بعد أن نال مناه وكتب الله له النصر بعد اعجاب الجميع ومنتهى التضحية.
ويفتح عيونه على سماء مقفلة وعالم يكاد يخلو الا من بعض قطع الاثاث التي تبعثرت في زواياه بصمت قاتل.. ولكن لم يكد يدير النظرة حتى استقرت على محيط من الاهل يلف السرير وأيدٍ ناعمة حنون يتيه في احضانها مع همسة رقيقة: ولدي.بينما أيدي منيرة تحتضن الوسام الجميل، وهمسة ناعمة: الحمد لله.
|