من يجرؤ الآن على الحديث عن الإصلاح والتحديث في ظل هذا الواقع الذي فرضته الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية على الشعوب والحكومات العربية والإسلامية؟!.
فقد استطاعت العصابة الشارونية الصهيونية أن تغرق المنطقة في حمامات دم لا يدري أحد كيف يمكن الخروج من طاحونتها القاتلة.
لقد أعطى بوش إشارة خضراء لا مشروطة بأن يصاعد من عملياته التصفوية للشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، وحرر يديه من أية التزامات بالقوانين الدولية والأعراف الإنسانية ليبيد هذا الشعب الأعزل.
ثم أعطى بوش نفسه حرية قتل العراقيين دون تمييز, وكل ذلك الإرهاب يتم باسم محاربة الإرهاب, وليطلق يديه في ثروات العراق النفطية وتوظيف موقعه السياسي الجغرافي في خدمة (أمريكائيل) بعد أن صارتا دولة واحدة تحكم بالريموت كونترول في تل أبيب.
هذا هو الواقع الذي فرضته (أمريكائيل) على المنطقة.
وهذا الواقع فرض بعد أن ارتفع صوت البيت الأبيض والكونغرس يطالبان بإجراء إصلاحات وتحديث في المجتمعات العربية والإسلامية وفي مؤسساتها الحكومية والمدنية، بغرض محاصرة ما تعتبره ثقافة العنف والتطرف في هذه الدول والمجتمعات، وذلك عن طريق توزيع هامش الحرية والديقراطية والتسامح الديني وتحديث التعليم ومناهجه وإعطاء المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية ومراعاة حقوق الطفل.
دعنا من هذه اللهجة المتعالية من قبل الإدارة الأمريكية. إلا أن الجميع يعلمون أن الولايات المتحدة هي آخر من يحق له الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان نظراً إلى سجلها الدموي الحافل في كل القارات, خاصة في (حديقتها الخلفية) إلى أمريكا اللاتينية, وهو سجل قذر ومخز بكل المقاييس.
ثم إن الجميع يعلم أن المجتمعات العربية منذ نهايات القرن الثامن عشر وإلى الآن، كانت تعج ولا تزال بالأصوات والتيارات الإصلاحية والتحديثية، وأن شرائحها الاجتماعية والثقافية والفكرية لم تكفّ يوماً عن الحوار والتفاعل والتصارع حول الإصلاح وأساليبه.
إذن فإن هذه المجتمعات ليست في حاجة إلى (الوصاية) الأمريكية التي تسمح لنفسها بسفك كل هذه الدماء العربية والإسلامية لتتعلم، أو تلقن مفردة (الإصلاح) وضرورته.
واليكم النتيجة: نتيجة هذه الغطرسة الغبية:
كانت هناك تيارات تحديثية وإصلاحية، سواء في المملكة العربية السعودية أو في غيرها من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية.
كانت إنجازات الحضارة الغربية على كل المستويات، سواء السياسية كما تتجلى في الديمقراطية ودولة المؤسسات وفصل السلطات، الفكرية أو الثقافية التجريبية، أو الاجتماعية التي تتمثل في حقوق المواطنة للجميع، وغيرها من الإنجازات، كانت تشكل جانباً من الأرضية التي تقف عليها تلكم التيارات التحديثية والإصلاحية.
فقد كان الهدف بالنسبة للجميع هو أن ترتقي هذه المجتمعات تنظيمياً وأن ترتقي هذه الدول.
المحافظون من ناحيتهم يضعون نصب أعينهم نفس الهدف إلا أنهم يرون أن ملامسة هذا الدنس الغربي ستقودنا إلى المجهول، كانت هذه هي الملامح العامة لهذا الصراع.
إلى أن دخلت (أمريكائيل) في الخط.
لو أنها دخلت لتدعم التيار الإصلاحي أو التحديثي، لكان هذا شيئاً يمكن تفهمه، رغم عدم شرعيته ولياقته.
لأن تدخلها كان بناء على حسابات مصالحها السياسية والاقتصادية، ثم الثقافية ثالثاً، ولم تكن لتلقي بالاً لهذه المجتمعات والدول.
إسرائيل تريد استئصال الشعب الفلسطيني إذا لم تستطع حشره في جيوب صغيرة في إسرائيل الكبرى التي تمتد من نهر الفرات إلى نهر النيل، فهذا هو الوعد التوراتي، الذي يؤمنون به، ولن يكفوا عن محاولة تنفيذه إلى يوم القيامة، وواهم من يرى غير ذلك، وإنما هي مراحل لتحقيقه وسياسات وتكتيكات لا أكثر ولا أقل.
أما أمريكا،بعد سقوط الاتحاد السوفيتي فتريد أن تصبح آخر الامبراطوريات التي تحكم قبضتها على العالم كله.
والآن تعمل الإدارتان على تنفيذ هذا المخطط المتكامل، وهما على وعي بما يفعلانه.
ومشكلتنا نحن العرب والمسلمين أننا نعتقد أن سياسات الدول يضعها وينفذها الأفراد لا المؤسسات، وأن هذه السياسات تخضع لإرادة هؤلاء الأفراد، في حين أنها أهداف استراتيجية تم وضعها منذ زمن بعيد، وهي تشكل الرؤية الاستراتيجية الكلية لمن يعمل في الحقل السياسي، وإن اختلاف الأحزاب والأفراد إنما ينحصر في الخطط التي توضع لتحقيق هذه الأهداف.
وعليه فإنك تعجب حين ترى بعض القيادات السياسية والإعلامية العربية حين يلقون بثقلهم ويراهنون على مرشح للرئاسة سواء في أمريكا أو إسرائيل ضد مرشح آخر، ويزعمون بأن المرشح الذي يراهنون عليه هو من جناح الحمائم، وأن الآخر من جناح الصقور.
وإلا فما الفرق بين ترومان وروزفلت ونيكسون وجونسون وكلينتون وكارتر وبوش الأب وابنه وبقية هذه القائمة الطويلة من رؤساء أمريكا الذين دعموا قيام إسرائيل وبقاءها على قيد الحياة كدولة طفيلية
وتجد الآن بيننا من يراهن على كلير منافس بوش في الانتخابات الأمريكية وكأنه رجل السلام الموعود، ولا أدري متى نكف عن خداع أنفسنا بهذه الطريقة الساذجة، إنه لن يختلف عنه إن لم يكن أسوأ من موقفه ليس من قضايانا وحدنا، بل ومن قضايا العالم كله.
نعم، لقد سمحت أمريكا لنفسها بأن تجتاح العراق تحت مظلة الكذب والتضليل بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وتبعتها في الكذبة بعض دول كانت تطمع في أن تنال من أمريكا قليل فتات من غنائم هذه الحرب.
وسمحت إسرائيل لنفسها بألا تكتفي بقتل المدنيين فحسب، بل وأن تغتال قيادات المقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة، بينما اكتفت سلطة ياسر عرفات ببيانات الإدانة التي توزعها بالتساوي على حكومة شارون والمقاومة الإسلامية.
ولكن ماذا كانت نتيجة هذا المشهد السريالي؟
لقد انقلب السحر على الساحر، وارتد الكيد إلى نحر الكائدين.
- فاز اشتراكيو إسبانيا على حليف أمريكا في الحرب على العراق أثنار تحت وعد بالانسحاب من الحرب، وقد بدأت قوات إسبانيا الانسحاب بعد يوم واحد من تسلم المعارضة السلطة.
- تعالت الأصوات في أوكرانيا واليابان ودول أمريكا الوسطى بإعادة النظر في وجود قواتها بالعراق وضرورة سحبها، مما دفع كوندليزا رايس إلى إبداء خشيتها من أن ينفرط عقد التحالف ضد العراق.
- أعلن بوش لعسكره أن الحرب قد انتهت وصدام حسين في أسرهم، ليكتشف العالم كله بما فيه الأمريكان أن الحرب قد بدأت بعد سقوط صدام ونظامه.
- ولم يمض كثير وقت حتى قفزت إلى واجهة المشهد مدينة صغيرة بحجم الفلوجة، وقائد شاب يسمى مقتدى الصدر، كرمزين للمواجهة كشفا مدى ضعف قوة الآلة العسكرية العملاقة، وهشاشة التحالف الذي تسميه(دولياً).
ومقابل هذا: تجد في فلسطين القذائف الصاروخية التي مزقت أجساد الشهداء من الأطفال والمدنيين وقادة المقاومة الإسلامية قد جعلت (حماس) تغلق ملفها السياسي، لتتحرك بقوة دفع جناحها العسكري خاصة بعد استشهاد الشيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وبهذا تكون إسرائيل قد أغلقت على نفسها كل احتمالات حل سلمي للقضية الفلسطينية، وهي الخاسرة بهذا، ولو على المدى البعيد.
فمقابل مئة فلسطيني يستشهد إذا مات عشرة إسرائيليين فسيكون النصر في النهاية لصالح عرب فلسطين، لأن الميزان الدمغرافي كما تؤكد مؤشراته الحالية هو في صالحهم، فلتكن حرب إبادة متبادلة إذن طالما الصهاينة لا يعرفون غير منطق الإبادة والحرب والدم والدمار.ثم إن من يسير إلى الموت بقدميه.. غير من يهرب منه.
وإن المجتمع الذي يكبّر ويهلّل وتزغرد نساؤه - زوجاتٍ وأمهاتٍ - كلما سقط لهن شهيد.. غير المجتمع الذي يخلف موت واحد وراءه الهلع والخوف.
ومن يموت شهيداً وهو موقن بأن مآله إلى الجنة.. غير الذي يموت وهو يشعر بأن مآله إلى الفناء أو إلى المجهول.
وإنها لحرب طويلة طويلة.. لم تهدأ يوماً.. ولن تهدأ.
أما بالنسبة لما بدأت به فإن النتيجة كانت مأزقاً حقيقياً لكل من كانوا ينادون بالتغيير والإصلاح والتطوير.
أولاً: لأنهم عرب ومسلمون لا يمكنهم التفرج على الممارسات الأمريكية الإسرائيلية في العراق وفلسطين ويتخذون دور الشيطان الأخرس، ولابد لهم من أن ينحازوا إلى أمتهم الإسلامية وإلى شعوبهم العربية.
ثانياً: لقد فتحت إدارة (أمريكائيل) بوابة العنف الدامي في المنطقة وهي لن تستطيع إغلاقها، لأن القاعدة الإستراتيجية العسكرية تقول إنك تستطيع إعلان الحرب ولكنك لن تستطيع إيقافها، وحينما تشتعل الحرب، ليس أمام الجميع سوى الانخراط في معسكر مقاومة موحدة، والتمرس في خندق واحد، حيث تصطف وتتلاصق كتوف المحافظين مع التحديثيين والإصلاحيين من أبناء الأمة والبلد.
وهذا ما حدث في العراق حين توحدت إرادة سنتها وشيعتها.
وحدث وسوف يحدث في فلسطين حيث ستتوحد قيادة كل فصائل المقاومة، ولن تعرف بعدها من تصطاد من القادة، بعد أن تصبح القيادة جماعية وموحدة، فلا (جهاد) ولا (فتح) ولا (حماس) ولا غيرها.
ولا أجزم بالغيب حين أقول إن عصراً عربياً وإسلامياً قد بدأت تطل بشائره الآن، وهو عصر يدعو للتفاؤل بالمستقبل.
بلى {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}
|