تابعت بقلق شديد ما يثار ولم يزل يثار عن مناهجنا وعن أنها تؤدي إلى الغلو والتطرف والإرهاب ، هالني ذلك الصمت الرهيب الذي تحلى به المنهجيون في وزارة التربية والتعليم وكأنهم يقولون: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
وبحكم علاقتي القديمة بالمناهج استنكرت هذا الصمت. استنكرته فعلاً لأنني أعلم تلك القدرات الهائلة في مناهجنا، والطاقات والإبداعات الرائعة التي يقدمها المنهجيون لدينا. لقد تناولت الأقلام المناهج نقداً يرتفع إلى مستوى النقد، وتجريحاً إلى مستوى الهبوط من أبناء جلدتنا ومن مثقفي بلادنا، واعترف بنزاهة الهدف وسمو الغاية، وأقلام من غير أبنائنا - نحسن الظن بالجميع -.
فما أنصف المنتقدون ولا أبدع المدافعون، وكنت أظن أن أقلام المنهجيين ستقول كلمتها في الموضوع ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وأصدقكم القول إنني بدأت أشك في أن شيئاً ما قد اعترى مناهجنا وخاصة المناهج الدينية، فعزمت على جمع تلك المناهج ودراستها دراسة متأنية، دراسة ناقدة بحكم خبرتي لعدة سنوات في المناهج.
وحاولت أن أبحث عند القراءة عن إجابة صادقة مبنية على واقع عملي لسؤالي يقول: هل مناهجنا تدعو إلى الإرهاب أو تدفع إلى الغلو والتطرف؟
يا سادة بعد القراءة خرجت بالتالي:
** تنطلق المناهج الدينية (أعني الكتب الدراسية في مراحل التعليم العام لأن مفهوم المناهج أوسع من مجرد مقررات) تنطلق هذه المناهج من مفاهيم عامة وتأصيل لغايات نبيلة.
** ومن هذه المفاهيم مفهوم العلاقات الإنسانية بين البشر، وتوصلت إلى أن المناهج تحدد هذه العلاقات في أربع نقاط:
الأولى: علاقة المسلم بأخيه الإنسان، منطلقة من قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }. هذا المفهوم الإنساني العظيم يجعل العلاقة بين بني البشر هي علاقة تواصل وتعارف وتحاب وتعاون.
الثانية: علاقة المسلم بمن يخالفه المعتقد وهو مسالم.. لم يعتد على مسلم. تنطلق هذه العلاقة من قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ }. فالعلاقة هنا علاقة بر وقسط وعدل.
الثالثة: علاقة المسلم بمن يخالفه المعتقد لكنه يجادل المسلمين ويحاول إقناعهم بسلامة معتقده ، وهذه العلاقة حددها القرآن في كثير من المواضع {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
{َإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
فهي علاقة قائمة على الحوار والإقناع والتبليغ، فرسالتنا في الأصل هي رسالة تبليغ ورسولنا أرسل مبلغاً، وكيف يمكن التبليغ بدون تواصل وحوار وتعرف على ما لدى الآخر.
الرابعة: علاقة المسلم بمن يخلافه المعتقد ويحاربه ويعتدى عليه. فهنا لابد من الدفاع عن العقيدة والاستعداد التام لمواجهة العدو، فقد ناصب المسلمين العداء ومنع الرسالة من أن تصل إلى الناس كافة، وقد أباح الإسلام قتالهم كحل نهائي. {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
هذا المفهوم السامي والغاية النبيلة، هي ما تؤصله المناهج في أذهان أبنائنا، وهو مفهوم مستمد من كتاب الله العزيز ومن سنة النبي الكريم ومن سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم ، تقدمه مناهجنا مبثوثاً في سائر فقرات الكتاب المدرسي، فمرة يقدم على شكل آية من القرآن وأخرى من حديث شريف وثالثة من سيرة ورابعة من قصة... وهكذا.
والمشكلة التي يعانيها أبناؤنا أن كاتباً ما بحسن نية أو بدونها يأتي على جزء من هذا المفهوم الشامل فيندد بهذا الجزء ويحمله المناهج ويصفها بالقصور ولاسيما تلك العلاقة التي رمزت لها (بأربعة) في هذا المقال، وهي الخاصة بعلاقة المسلم بالمحارب، فيجدها مناخاً رحباً لنقده وتجريحه.
وحول هذه العلاقة أقول:
هل المطلوب من المجتمعات الإسلامية والمجتمع السعودي على وجه الخصوص ألا يستعد وألا يبني كياناً قوياً؟
وإذا فعل هذا أتصفه بالإرهاب؟
كيف يمكن أن يكون هذا وعدونا يملك الأسلحة الفتاكة ويستعد للانقضاض علينا؟ أمن المنطق أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا العدو؟
أعود فأقول: إننا بصراحة أمام مشكلة خطيرة يعيشها أبناؤنا بين تناقض غريب إذ يقرأ في صحافتنا ويشاهد ويستمع عبر قنوات العالم إلى النيل من مناهجنا. تصوروا أية حيرة يقع فيها أبناؤنا جراء ذلك ؟
أيصدقون الإعلام أم المناهج؟
أعتقد أن من أوجب واجباتنا أن نتحدث عن مناهجنا وأن نقدم ما فيها من قيم روحية وعقدية إلى القراء - ليس كردة فعل مما يكتب - ولكن كحقائق تقدم للمجتمع وللأبناء وللمهتمين بالشأن التربوي محلياً ودولياً وأن نتخذ استراتيجية واضحة نعمل على تحقيقها، فعلى المنهجيين أن يقوموا بهذا العمل فهم الأقدر والأجدر والأحق ببيان الحق.
أعود فأقول: إنني كمنهجي أولا وكولي أمر مطمئن لسلامة المناهج من الغلو والتطرف،أنه يجب على من يتناول هذا الموضوع في الصحافة ألا يكتفي بفقرة من كتاب ظن توهماً أنها تدعو إلى الإرهاب، فيقيم عليها موضوعه، عليه أن يفهم النص من خلال سياقه وهذا أقل ما ينبغي على الباحث الجاد الذي ينطلق من علمية البحث، بل إن من خلق المسلم التثبت {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } وألا يلقي القول جزافاً.
|