وعندما اقتربت من إحدى النخلات سمعت صوتاً يقول: عبدالله هل حضرت؟
فالتفتُ إلى مصدر الصوت فإذا بي أمام كائن في صورة شبح. كائن قصير القامة لم أشاهد منه بوضوح سوى ضباب يلف ما يتصدر كتلته. لنقل وجهه. وقال بصوت ممزق كأنه مرر على صفائح معدنية رقيقة: أتبعني. سرت وراءه بخدر خفيف في أطرافي وهدوء وبمشاعر تم تجميدها. أريد أن أعرف أين أنا.
دخل الكائن إلى منزل متهدم في وسط الحيالة ودخلتُ خلفه فشاهدت مجموعة من الخلق يتوسطهم رجل عندما اقتربت منه لاحظت أنه ضبابي مثل مرافقي ولكنه أكثر حضوراً وأكثر قرباً من مقاييسي، يحلق الجزء الأيسر من وجهه بينما يظل الجزء الأيمن مكتظاً بشعر قاس منتصب ومدبب الأطراف كأنما هو شعر قنفذ. بدت عليه سيماء الرئاسة. يجلس على برميل بين اثنين من نفس شاكلته. أما بقية الخلق فقد كانوا يقفون بشكل نصف دائرة وبعضهم القليل يجلس على جذوع نخل تموج بهم كأنها خلقت من دخان. فتقدمت كما أوحى لي دليلي حتى أصبحت في وسط نصف الدائرة التي تتقوس على ذلك الرجل نصف الملتحي. عندها قال: عبدالله هل تعرف لماذا أحضرناك إلى هنا؟
فسألت: من أنتم وأين أنا؟
فقال لا تخف فأنت في أمان هنا. ثم أشار بأصبعه إلى شخص يقف ضمن الصفوف وقال: هل تعرف هذا؟ فنظرت إلى كتلة الضباب التي أشار إليها وبعد تأمل كاف قلت بثقة: لا.
فقال: هذا والد سرطعوشه والتي بجواره هي أمها. وقبل أن أتكلم أو أعبر عن دهشتي انخرط والد سرطعوشه في بكاء مرير ذكرني بالصوت الغريب الذي سمعته تحت كومة الحطب. فقال نصف الملتحي موجهاً كلامه لوالد سرطعوشه: سنقتص لكما إذا ثبت أنه هو الفاعل بل سنقطع رقبته. فعرفت أنني لست في نزهة ليلية فالأمر خطير لابد أني متورط في قضية كبيرة وخصوصاً أن أمي دائماً تنصحني بعدم الاقتراب من ذلك العمود الذي دخلت معه إلى العالم السفلي.كانت تقول لي إن هناك عجوزاً محرولة تسكن فيه. لم أنصت لها أبداً. وأثناء تأملي اقترب مني أحدهم وقال: هل تعترف أنك قتلتها؟ فقلت: من هي؟ فقال: سرطعوشه. فقلت لا أعرف أحداً بهذا الاسم. ولا أظن أن هناك إنساناً يحمل مثل هذا الاسم. فقال: ومن قال لك بأن سرطعوشه إنسية. فسألت: وماذا تكون إذاً؟ فقال إنها واحدة من بنات جنسنا.
وفجأة تدخل والد سرطعوشه صارخاً: إنها زينة بنات الجان وأكثرهن أدباً وحشمة. قتلها هذا الإنسي المجرم. فرد عليه على الفور المخلوق الذي كان يقف إلى جانبي قائلاً: إنه مازال طفلاً لا حق لك أن تسميه مجرماً. لم أكن أعرف حينها ما تعنيه كلمة مجرم ولكني أحسست بالخوف من قوة الكلمة فصرخت: أنا لم أقتل أحداً في حياتي. فردت والدة سرطعوشه بصوت مليء بالغضب والأسى: بل أنت الذي قتلها أيها الإنسي الحقير. وسوف نقتص منك الآن. فقلت مرة أخرى بلسان يخالجه الرعب:أنا لم أقتل أحداً أبداً. فردت: هل تعرف ما هذا الذي في يدك ثم أردفت هذا مسفع سرطعوشه الله يرحمها ويسكنها جنات النعيم. فقال نصف الملتحي لضبط النظام، اصمتي الآن والتفت عليَّ وقال: نزلت من السطح الأعلى تريد الماء هل هذا صحيح؟ فقلت نعم. فصرخ بأعلى صوته: هاتوا الماء لهذا الإنسي. وبعد ثوان ران فيها صمت القبور. جاء ما يقارب ثمانية رجال يحملون غضارة والإنهاك باد عليهم وكأنهم يحملون صخرة. عرفت أنها نفس غضارتنا التي كانت على السطح. ولكني لم أقو على الكلام من شدة الظمأ. فقربتها من فمي فأحسست برائحة كريهة جداً لم أعهدها من قبل، أقرب إلى رائحة الكبريت. فأبعدت فمي عنها باشمئزاز لم أستطع أن أداريه. فقال نصف الملتحي أشرب يا عبدالله من هذا الزلال. فقال والد سرطعوشه وكأنه يتشفى: هذا لا يشرب إلا من ماء الزير والقربة. فقال الرجل نصف الملتحي: هناك مياه لا حصر لها في هذا الكون خليط من السوائل المتهالكة المندفعة إلى مصير من الجفاف المحتوم سيأتي اليوم الذي تتصدع فيه كل تلك الأشياء السائلة.. ثم أخذ يتمتم والقوم يرددون خلفه كأنه يتلو عليهم أدعية وصلوات. فأخذت أصواتهم ترتفع بشكل متسارع حتى أصبحت ضاجة مروعة حتى مرافقي تركني وراح معهم في غيبوبة الدعاء. وبعد قليل شعرت من شدة الضجيج أن أصواتهم بدأت تختفي خلف حاجز الصوت. كأنهم عبروا درجة الصوت الذي تستطيع التقاطه أذني. فأخذت أجول بعيني فيهم وفي هذا العالم الذي يلفهم فلاحظت لأول مرة أني في عالم بلا ألوان مع غياب تام للسواد الشديد والبياض الشديد. عالم تتكشف فيه الأشياء بتبادل وتداخل الرمادي والرصاصي. وبعد قليل عادوا من رحلة الصوت الضاجة بنفس التدرج حتى الهدوء التام. التفت الرجل نصف الملتحي وسألني: أين كنت يوم الجمعة الماضية الساعة الواحدة بعد الظهر؟ فقلت بكل صدق: كنت ألعب مع أصدقائي في الشارع. فقال بتعجب: وهل تلعب في عز الظهر في هذا الحر المميت هذا كلام لا يمكن تصديقه فقال محاميّ أو من أظنه محاميّ: سيدي من حيث المبدأ هذا صحيح فعيال الرياض مثل الشياطين يلعبون في أي وقت بما في ذلك القايلة أرجو ألا تقارنهم بأطفال الجن. صمت نص الملتحي ووضع ذقنه فوق ركبه الذي يجلس إلى جانبه. تأكدت تماماً أن القضية كبيرة فقررت بجهلي وطفولتي وشيطنتي أن أفعل شيئاً قبل فوات الأوان.
يوم السبت القادم سوف نلتقي وجهاً لوجه بالجنيه التي أحبتني وقررت إنقاذي.
فاكس 4702164
|