لست أدري أين قرأت مقالا لحلمي سلام منذ أسابيع نقلته إحدى صحفنا، ذكر فيه ان الأدباء الكبار في كل بلد ينعمون أعظم مما ينعم الأثرياء الكبار، فمنهم من يملك يختاً فخماً، ومنهم من يملك قصراً في (الريفييرا) إلا أدباء العرب وذكر ان العقاد كاتب العربية الأكبر الذي تجاوز السبعين من عمره يسكن في شقة متواضعة ومايزال حتى اليوم يعيش من كد قلمه.
وشكراً لحلمي سلام، وعفاء على القراء العرب الذين يعدون بالمئات أو ببضعة آلاف ولا يستطيعون ان يعملوا شيئا لأديب فيلسوف عالم كالعقاد.
إن (سومر ست موم) الأديب الانجليزي استطاع من دخل كتبه ان يصبح صاحب ملايين، وينعم في آخر حياته، أما دخل كتب العقاد فلم يمكنه لا من عيش الكفاف، لأن العرب لايقرؤون، وإذا قرؤوا فعددهم في كل بقاع الدنيا لايتجاوز بضعة آلاف.
ولو كان قراء العربية واحداً من كل فئة لكان عندنا 600.000 قارئ إذا كان تعداد العرب ستين مليوناً، وإذا كانوا واحداً من كل ألف لكانوا ستين ألفاً.ومع هذا نزعم لأنفسنا في وقتنا الحاضر مفاخر!ان كل نهضة وليدة القراءة لأن القراءة آية صحو الملكات ويقظة القرائح والفهوم، والأمة الأكثر قراءة من غيرها هي الأمة الأكثر تقدما في جميع الميادين.
منذ أيام قامت مصر باحصاء دقيق للقراء، فظهر ان بها منهم واحدا في المائة، وهؤلاء الذين يجتمعون من هذا الواحد يفترقون فخمسة وثلاثون منهم يقرؤون مجلة (سمير) للأطفال وقراء الأدب الرفيع والعلوم لا يبلغون واحدا في كل عشرة آلاف كما أظن.
فكيف نريد للعقاد ان يحيا بعد السبعين كما يحيا زملاؤه في أوروبا وأمريكا وروسيا؟ لو كان هناك لكان له شأن أي شأن.
ان العقاد من القلائل في العالم، فهو موسوعة ضخمة، وقابلت أكابر من مختلفي الأجناس لم أر منهم من يداني العقاد ثقافة وابلاغا، والمختصون بجانبه طلاب.
وان من العار -كل العار- ان يعمل العقاد ليل نهار وهو فوق السبعين ببضع سنين من أجل لقمة العيش التي يلاحقها ويجري إليها جري الشريف.
لقد اتيحت للعقاد فرص نادرة ترفع عليها فلم ينتهزها، ولو انتهزها لكان اليوم من أصحاب الملايين، ولكن العقاد الذي قال منذ ثلاثين سنة: إنني مستعد في سبيل الحق أن أدوس أكبر رأس في البلد!!ودفع ضريبة هذه الكلمة تسعة أشهر قضاها في السجن ليخرج منه رافع الرأس شامخ البنيان لايدين لغير الله بفضل.
وأنا من أعرف الناس في الدنيا بالعقاد وعظمته وإبائه وترفعه ونزاهته، وما مثله بين كل حملة الاقلام العرب في هذا العصر.
وعندما كتبت مقدمة كتاب (الشيوعية والإنسانية) للعقاد (الذي طبع في مصر وصدر سنة 1956م) قلت ما أنقله بنصه:
(إن قلم العقاد حر نبيل، لم يخط حرفا طمعا في مال، ولم يتوار خشية من طغيان، ويدل على نزاهته (المثالية) انه مايزال أفقر كاتب كبير في العالم كله برغم (الفرص) التي مرت به، وكان في بعض الأحزاب القديمة من المجلين، وكان في وسعه ان يكون له في البنوك رصيد ضخم يتكئ عليه عند الحاجة، ويستعين به في تقليل كده الذي لاتطيقه عصبة أولو قوة، وأن تكون له معارج يظهر عليها، وضياع عامرة يفيء إليها في أخريات عمره، ولكنه-مع بروزه ولمعان اسمه وقدرته القادرة على الكسب والدخل- لم يستغل قلمه ولم يدعه مستغلا من أحد وكل رصيد العقاد هو ستر الله وأكرم به من رصيد لايفنى عندما تفنى أرصدة الأموال والأعمال والإعمار).
فالعقاد فقير لأنه نبيل كل النبل، ولأن قراء العربية لايتجاوزون بضعة آلاف، ولو أراد ان يكون من أصحاب الملايين لكان سهلا كل السهولة فقد طلب إليه الوفد ان يصدر جريدة (المصري) قبل ان يعطي امتيازها محمود أبوالفتح فاعتذر، وقيل له: بوسعه ان يفيد من الورق فاعتذر.
وللعقاد دخل كبير من قلمه يبلغ 300 أو 400 جنيه كل شهر ولكنه لايكفيه، فهو ينفق على نفسه في بيته حوالي 200 جنيه، وينفق على خمس أسر ويبر أصدقاءه وطلبته ومن يعرفونه.
حدثني محمد عبدالرحمن الذي كان مديرا لدار مجلة (الرسالة) ان (الرسالة) عطلت والزيات باع المطبعة، وأصبح محمد عبدالرحمن بلا عمل، فسأل عنه العقاد واستزاره في منزله، وأعطاه (ظرفا) مختوما، فلما خرج إلى الشارع وجد به خمسة وعشرين جنيها.
وعرضت على العقاد ان أقاسمه مالي في مصر، وكانت لي بها (مطبعة) كبيرة وبعض مال فاعتذر وحاولت فأصر على الاعتذار.
وآخر مرة قابلته فيها منذ ثلاث سنوات، وكان العقاد قد بلغ من الكبر عتيا، والقلم يهتز في يده كل الاهتزاز، فاضطر ان يملي، ولايملك العقاد رصيدا في بنك وكل ما يملكه (مكتبة) أنفق فيها عمره، ولكن لن تبلغ الف جنيه في سوق البيع.
وأول مرة عرفت فيها العقاد معرفة شخصية كان سنة (1356هـ1936م) زرته في منزله وكان قد انشق عن الوفد وخرج علي النحاس باشا.
ورأيت لديه بغرفة الجلوس (بساطا) وامتدت به صداقتي الخالصة، وبقى البساط في سنة 1936م حتى سنة 1957م وحال لونها فأهديته بساطا أخضر جميلا، واحتلت عليه في قبولها، وقلت له: إنه من مكة المكرمة -حرسها الله- وقبل الهدية، وزرته بعد أيام فقال العقاد: لقد (صرفت) بساطك باثنين وها هو ذا أحدهما في غرفة الجلوس، والآخر بغرفة النوم.
ويقضي العقاد أيامه هذه وهو يجاهد من أجل قوته وقوت الأسر التي يتولى الانفاق عليها، ويعلم الله أنني أدعو له من صميم قلبي بطول العمر حتى يحقق أمنية لي هي أمنية كل مسلم مخلص مثقف، وهذه الأمنية تأليف تفسير للقرآن الكريم.حدثت العقاد عن التفسير ووافق ان يقوم به، والرجل يحبني ويعجب بي كثيرا، ولا يساومني، ويقبل مني القليل، ووافق على ان يفرغ سنتين أو سنة ليقوم بتفسير القرآن واتفقت معه على أن أدفع له خمسة آلاف جنيه مكافأة رمزية على هذا العمل الإسلامي الأجل.ولكن أنى لي خمسة آلاف جنيه؟! وعرضت منزلي الذي أسكنه للبيع فأقضي ديوني، وما يبقى بعد ذلك أقتطع منه خمسة آلاف جنيه أدفعها مكافأة احتسابا لوجه الله، ولكن لم أجد راغباً فيه.
وكل خشيتي ان يموت العقاد -لا قدر الله- فيموت ذلك التفسير الذي أعتقد أنه سيكون خير تفسير يرضي المسلمين وغير المسلمين لأنه تفسير يعتمد على المنطق والتجربة العلمية والحق والواقع.وما أدري إلى من اتجه؟!
أعاد الاسلام غريبا؟ لا، مايزال الاسلام بخير! فمن يتقدم من الأغنياء في بلادنا؟
نشرت هذا المقال في جريدة (عكاظ) بعددها الصادر في 23-11-1382هـ (1962م) كما نشرت في جريدة (المدينة المنورة) سنة 1378هـ (1959م) مقالا عن تفسير القرآن الكريم يقوم به العقاد، ولكن وقع ما خشيت، فقد مات العقاد ولم أستطع ان أحمله على تأليف التفسير لأنني لم استطع ان أحقق أمنيتي في جمع المبلغ الذي قررت تقديمه له حتى يتفرغ لتأليف التفسير، رحمه الله رحمة واسعة.
|