كثيراً ما يطلب الأطباء من المرضى إجراء أشعة الرنين المغناطيسي قبل أن يقولوا كلمتهم الأخيرة في تشخيص هذا المرض أو ذاك, سواء كان المريض يشكو من آلام بالرأس أو العظام أو القلب أو غيرها من أجهزة الجسم.. وفي معظم الحالات يكون (الرنين المغناطيسي) هو المرشد الأمين للطبيب للوقوف على حقيقة المرض، ودرجة الإصابة وغيرها من الأمور التي لا غنى عنها لوصف العلاج الناجح.
لكن ما هو الرنين المغناطيسي، ونظرية عمله، وإسهاماته في دقة التشخيص، والأمراض التي يفيد في تشخيصها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها نطرحها على الأستاذ الدكتور أسامة حارث عبد اللطيف استشاري الأشعة بمستشفى الحمادي بالرياض، أستاذ الأشعة بمصر، وزميل جامعة بوسطن الأمريكية.. من خلال هذا الحوار:
** ما هي نظرية عمل الرنين المغناطيسي؟
- دونما الدخول في تفاصيله المعقدة والتي يصعب على غير المتخصص إدراك أبعادها نستطيع أن نقول: إن عمل هذا الجهاز يعتمد على حقيقة كونية أودعها الله سبحانه وتعالى، وتكمن في أن كل خلية حية تشترك في تكوين أعضاءالجسم المختلفة يكون لها مجال مغناطيسي خاص بها ويميزها عن غيرها من الخلايا التي تشترك في تكوين الأعضاء الأخرى. ومن هنا وجد العلماء أنه حينما يوضع جسم الإنسان داخل مجال مغناطيسي خارجي تحدث تغييرات في المجال المغناطيسي لهذه الخلايا؛ مما يترتب عليه إنتاج شحنة كهربائية يتم استقبالها داخل ذاكرة جهاز الكمبيوتر الملحق بالجهاز، حيث تترجم إلى أرقام، كل رقم منها يمثل درجة من درجات اللون الممتد ما بين الأبيض حتى الأسود (gray-Scale)، والذي بدوره يترجم إلى صورة حقيقية لكل نقطة داخل الجزء الذي يتم فحصه.
** ماذا أضاف جهاز الرنين المغناطيسي في مجال الطب على اختلاف تخصصاته؟
- ما أكثر الحالات التي تلقي الضوء على فوائد هذا الصرح العملاق، ومنهاالسكتة الدماغية (CVS)، وأقصد بذلك تحديداً الجلطات الحادة التي قد تصيب أحد شرايين المخ، والتي تتراوح أعراضها بين مجرد تثاقل بحركة أحد الأطراف إلى احتمال حدوث شلل كامل فجائي لأحد أو كل الأطراف مع إمكانية فقدان النطق أو فقدان الوعي. وبقدر ما يتم التعامل معها بسرعة فائقة بقدر ما يكون احتمال الشفاء التام، وذلك قبل أن تؤدي تلك الجلطة الشريانية إلى تلف نسيج المخ الذي يغذيه هذا الشريان بالدم. وهذا في رأيي هو الحدث الأعظم الذي يميز الرنين المغناطيسي، حيث أمكن باستخدام التقنيات الوصفية والوظيفية تحديد هوية الجلطة خلال الساعة الأولى من حدوثها، على العكس مما سبق من فحوص، حيث لم يكن ممكناً تحديد الآثار المترتبة على تلك الجلطة قبل مرور 12 -24 ساعة من حدوثها، وهو ما يفقد المريض ميزة التدخل العلاجي السريع لإذابة تلك الجلطة قبل أن تتمكن من إتلاف نسيج المخ... ولذلك أصبح معلوماً أن الرنين المغناطيسي يجب أن يكون الوسيلة الأهم في تشخيص تلك الحالات خلال الساعات الأولى من حدوث أعراضها، حتى لو أثبتت الفحوص الأخرى عدم وجود آثار لتلك الجلطة المحتملة.
** هل ثمة حالات أخرى تفرض استخدام الرنين المغناطيسي لدقة تشخيصها؟
- ما أكثر هذه الحالات, ومنها الانزلاق الغضروفي. فمن الأعراض المتكررة التي لا يكاد يمر يوم إلا ويواجهها الأطباء الأعراض المترتبة على وجود انزلاق غضروفي بالفقرات العنقية أو القطنية، وما يصاحبها من آلام مبرحة بأحد الأطراف العلوية أو السفلية التي قد تصل في شدتها إلى حد إعاقة المريض عن مزاولة حياته الطبيعية، خاصة لدى السيدات اللاتي تكثر إصابتهن بتلك الحالات؛ لضعف عضلات الظهر وتغير محور ميل العمود الفقري القطني المصاحب لحالات الحمل المتكررة وزيادة الوزن, وكلنا نعلم قدر الخوف والهلع الذي كان يصيب الكثير من المرضى حين يطلب منهم عمل فحص الأشعة بالصبغة للعمود الفقري، حيث كان حقن تلك الصبغة داخل العمود الفقري، وتحديداً بالقناة الشوكية، كان يمثل مأساة حقيقية لما يصاحبه من آلام لم يكن ليحتملها الكثير من المرضى، حيث كانوا يفضلون الاستمرار بآلامهم عن الإقدام على عمل ذلك الفحص؛ مما أدى إلى تفاقم كثير من المضاعفات لدى العديد منهم.. واستمر الحال هكذا حتى جاء الرنين المغناطيسي ليقدم للبشرية معادلة السهل الممتنع، ففي خلال دقائق لا تزيد على العشرين يقضيها المريض بالجهاز يتم تشخيص حالة الغضاريف المختلفة في المنطقة المشكوك بإصابتها، وبدرجة فائقة الدقة تمكن الطبيب المعالج من اتخاذ القرار العلاجي الصحيحدونما تردد أو تشكك فيما يحمله له تقرير اختصاصيي الأشعة القائمين بالفحص والتشخيص، وتصل الدقة إلى حد قدرة الطبيب المعالج (بناءً على نتيجة الفحص) أن يحدد مساحة لا تزيد على عدة سنتيمترات يمكنه من خلالها إزالة الانزلاق الحاصل، بعدما كان في السابق لا بد من إزالة أجزاء كبيرة من عظام العمود الفقري المحيطة بالقناة الشوكية حتى يتمكن من الوصول إلى نقطة الانزلاق المحتملة.
** ماذا عن تشخيص إصابات المفاصل باستخدام الرنين المغناطيسي؟
- من المعلوم أن أي مفصل يتكون من أجزاء عظمية وأجزاء غضروفية. وللحق حتى ظهور أجهزة الرنين المغناطيسي لم يكن يتسنَّى لأي وسيلة تشخيصية شعاعية أخرى تقديم صورة دقيقة عما يحدث للأجزاء الغضروفية داخل أي مفصل مصاب، وهو ما يقدره تماماً العاملون بمجال الطب الرياضي، حيث تكثر إصابات الرياضيين بمفصل الركبة، ويتوقف العلاج الأمثل على مدى دقة التشخيص الذي قد يدَّعي البعض بأنه يمكن أن يتم باستخدام المناظير الجراحية، وإن كنت أوافقهم الرأي إلا أنني أود أن أذكِّرهم بأن الفحص بالمنظار هو تدخل جراحي له ما له وما عليه من مآخذ تحسب على أي تدخل جراحي،كما أنه لا يخفى على أحد أن نتيجة الفحص بالمنظار تمثِّل وجهة نظر القائم بالفحص وحده دون غيره، بعكس ما هو عليه الحال في الفحص بالرنين المغناطيسي، حيث لا توجد أية تدخلات جراحية، وصورة الأجزاء المختلفة للمفصل يتم مناظرتها بأكثر من طبيب؛ للوصول إلى التشخيص الأدق والأمثل. وما ذكرته بالنسبة للرياضيين هو نفسه ما يواجهه أي مريض يعاني من آلام مفصلية، وخاصة بمفصل الركبة والتي تنتج إما لإصابات حادة كحوادث الطريق أو حوادث التعثر والسقوط، وإما تنتج من حدوث تآكل بمكونات المفصل، وهو ما يصاحب عادة تقدم العمر، وخاصة لدى مَن يعانون من الوزن الزائد للجسم، حيث تبيِّن الفحوص السابقة للرنين وجود خشونة بالعظام دونما التطرق لما هو حادث لباقي المكونات كالرباط الصليبي الأمامي أو الخلفي الذي قد يتسبب في حالة تمزقه في عدم قدرة المريض على التحميل على مفصل الركبة، وإحساسه المستمر عند الوقوف أو المشي بأن أطراف العظام المكونة للمفصل تكاد تنزلق عن مكانها الطبيعي.. ومن ثَمَّ أصبح في حكم اليقين لدى كل الأطباء المعنيين بهذا الشأن أن الفحص بالرنين المغناطيسي للمفاصل، وخاصة الركبةوالكتف والحوض، يجب أن يكون فحصاً أساسياً لأي مريض يعاني آلاماً حادة أو مزمنة بأيٍّ من تلك المفاصل لإثبات أو استبعاد إصابة تلك الأجزاء الغضروفية المكونة للمفصل.
** وهل تدخل أمراض الجهاز العصبي ضمن الأمراض التي يمكن تشخيصها بالرنين؟
- لعلني أكاد أن أجزم أنه قبل استخدام الرنين المغناطيسي كان من المستحيل تشخيص بعض الأمراض التي قد تصيب الجهاز العصبي المركزي الذي يضم المخ والحبل الشوكي، ولعل من أهمها ما يسمى بمرض (MS) الذي يتصف بحدوث ترسيب لبؤر من التليف متناهية الصغر داخل نسيج المخ والحبل الشوكي، وتصيب عادة المرضى في العقدين الثالث والرابع من العمر. وحتى وقت ظهور الفحص بالرنين المغناطيسي كان الأطباء العاملون في مجال أمراض الأعصاب يقفون مكتوفي الأيدي أمام ما يحدث لهؤلاء المرضى دونما أن يملكوا أي تفسير دقيق لحالاتهم المرضية، ومن ثَمَّ كانت بروتوكولات العلاج كثيراً ما تضل الهدف المنشود.. الأمر الذي تغير تماماً بعد الاعتماد على الرنين المغناطيسي؛ حيث التشخيص الصحيح، ومن ثَمَّ فالعلاج الصحيح لتلك الحالات المرضية وغيرها من الأمراض التي قد تصيب أكثرها العصبية المركزية والطرفية، والتي لا يتسع المجال لسردها جميعاً.
** وما دقة استخدام الرنين المغناطيسي بالنسبة للأورام السرطانية؟
- من المعروف تماماً أنه ليس المهم فقط هو تحديد وجود ورم سرطاني في أي من أعضاء الجسم، ولكن الأهم هو تحديد ماهية هذا الورم من حيث درجة انتشاره وتغلغله داخل الأنسجة المحيطة، وهو الأمر الذي يحدد المرحلة الباتولوجية للورم؛ وذلك لأن طرق العلاج تختلف كلياً باختلاف مرحلة الورم. ففي المراحل الأولى، حيث لم ينتشر الورم بعدُ داخل الأنسجة المحيطة، يكون اتخاذ قرار التدخل الجراحي هو القرار الوحيد المقبول لإنقاذ حياة المريض، بينما في المراحل المتقدمة، حيث بدأ انتشار الورم بالأنسجة المحيطة، يكون قرار استئصاله قراراً غير وارد، حيث يتم حينئذٍ اللجوء للعلاج الكيميائي والإشعاعي لتخفيف وعرقلة مسيرة السرطان المقتحم، ومن هنا أصبح راسخاً في أذهان كل الأطباء الذين يواجهون تلك الحالات المرضية، وربما في أذهان الكثير من غير المتخصصين من المرضى وذويهم، أن التعاطي مع أي حالة من حالات الأوارم السرطانية لن يكون تعاطياً صحيحاً إلا بالفحص الأولي والمتتابع باستخدام الرنين المغناطيسي، ويخطئ بحقٍّ كلُّ مَن يحاول تجاهل هذه الحقائق.
** وماذا عن استفادة تخصصات أمراض النساء من تقنية الرنين؟
- على الرغم من قدرة أجهزة الفحص بالموجات فوق الصوتية على تقديم إجابات شافية لمعظم الحالات المرضية الناتجة عن إصابات الجهاز التناسلي للإناث، إلا أنه تبقى هناك بعض الحالات التي لا يستطيع الفحص بالموجات فوق الصوتية تفسيرها. ومن هذه الحالات: الحالات المرضية المسماة بالadenomyosis، والتي تتصف بتغلغل الطبقة المبطنة للرحم بصورةمرضية داخل العضلات المكونة للرحم، والتي تعاني فيها السيدات من وجود نزيف مستمر غير مبرر، ولا يقل في شدته عقب كل الإجراءات الجراحية كعمليات الكحت وغيرها. وهنا أستطيع أن أقول وبكل الثقة: إن الفحص بالرنين المغناطيسي هو الأقدر على إجلاء حقيقة تلك الحالات المبهمة والأورام الليفية بالرحم، والتي كما نعلم يتعدد مكان وجودها داخل الرحم؛ فمنها ما هو تحت السطح الخارجي، أو داخل الطبقة العضلية للرحم، أو تحت الغشاء المبطن لتجويف الرحم. ويعتبر الأخير هو الأهم والأولى بالرعاية؛ فقد يصاحبه حدوث ضيق بتجويف الرحم قد يعيق حدوث حالات الحمل، وقد يصاحبه تآكل بالغشاء المبطن والذي يغطي هذا الورم؛ مما قد يؤدي إلى حدوث نزف دموي مهبلي يعبر عن نفسه إما بزيادة عدد أيام الدورة الشهرية، وإما بحدوث نوبات حادة من النزيف بين الدورة والدورة التي تليها. ولعل هذا المكان الحيوي الذي ينشأ فيه هذا النوع قد يجعل اتخاذ قرار الاستئصال الجراحي للورم قراراً صعباً؛ حيث إن استئصاله قد يتطلب إجراء فتح بالغشاء المبطن للرحم، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى حدوث ندبة متليفة مكان الجرح القطعي للغشاء؛ مما قد يؤثِّر على قدرة الغشاء على احتضان البويضة المخصبة مع بداية حدوث الحمل، وهو الأمر الذي دعا الكثير من اختصاصيي أمراض النساء إلى اللجوء إلى علاج المريضات بما يسمى بالعقاقير المحفزة لتقلص الورم في مكانه؛ حفاظاً على ما يعلوه من الغشاء المبطن للرحم... وفي هذا الشأن فالفحص بالرنين المغناطيسي أصبح أساسياً لدى هؤلاء الاختصاصيين لتحديد مكان الورم، ومتابعة درجة تقلصه أثناء فترة العلاج.. والأورام السرطانية للرحم والمبيضين تخضع أيضاً في التعامل معها لكل القواعد التي تحدثتُ عنها سابقاً فيما يختص بتحديد مرحلة الورم الباثولوجية؛ حتى يتسنى اتخاذ القرار الصحيح، وفي الوقت الصحيح. وطبقاً لما أقرَّته هيئة الF.I.G.O فإن التصنيف المرحلي لأورام الرحم والمبيض السرطانية باستخدام الرنين المغناطيسي هو نفسه ما يتم استخدامه تبعاً للوائح تلك الهيئة في تصنيف تلك الأورام، والتي تعتبر أعلى هيئة علمية لأمراض النساء، ومقرها نيويورك. وهناك العيوب الخلقية المحتملة بالرحم؛ حيث يمكن إبرازها بصورة عالية الدقة باستخدام الرنين المغناطيسي، وفي عدة محاور. وأيضاً العيوب الخلقية المحتملة بالجنين في حالات الحمل، وخاصة في الفصل الثالث من فترة الحمل، حيث أمكن تشخيص العيوب الخلقية بالمخ والقلب أثناء فترة الحمل، وقد يمتد هذا التأثير الفاعل للرنين المغناطيسي بعد الولادة.
|