سمعت صوتاً لا يشبه أي صوت سمعته من قبل . صوت أنثى أو صوت طفل مدمج في صرير مكتوم ، ولكنه يبقى نائياً كأنما هو قادم من عوالم أخرى . أصرت يدي على الخرقة وعيناي تركزتا على كومة الحطب . انتظرت أن يخرج أي شيء أو يعيد الصوت نفسه مرة أخرى . لا أعرف كيف تبادر إلى ذهني العمود المنتصب بجانب المطبخ دون سواه . لم أفكر في أمي أو أبي أو أي من البشر لأطلب العون لتحطيم الظمأ والظلام . طاف في ذهني العالم بسرعة وكأني على وشك أن أغادره . انحدرت الأخيلة من بعيد .. وتجمعت منذ أول يوم عرفت فيه التمييز بين الأحلام والحقيقة . منذ أول حلم حلمته وسعدت بامتلاكه وتفردي به . عالم هادر من الخزعبلات صنعتها مخيلتي تريد أن تقتلعني الآن . وبعد قليل أشك أني سمعت الصوت مرة أخرى . ثم لمحت على الفور شيئا انبثق من كومة الحط ، انسل كالضوء أو هو الضوء نفسه . مرق من أمامي راكضاً إلى بطن البيت ، فعدوت خلفه بانخطاف . لم يكن يمضي في سرعة الضوء الخارقة . كنت قادراً على مجاراته . فوصلنا معاً تقريباً إلى عمود المطبخ فالتوى ناحيتي كأنه ينظر إليّ ، فتقدمت نحوه وأنا ممتلئ برسالة تريد أن تبوح بنفسها إليه . كأنما بيننا لغة صامتة تختلج في أعماق الوجدان . اقتربت منه ملبيا نداء المجهول. وفي اللحظة التي كدت أن أتحسس عناصر كينونته ، شاهدت درجاً ينفتح على قبو لم يظهر منه سوى مسحة من ظلمة شفافة تغطي أطراف السلم العليا التي تأخذك إلى أسفله . شعرت بهواء بارد تتخلله رائحة بخور قديمة وكأنه يصدر من خلوة مسجد مهجور . فقفز الضوء فيه ووضع كتلته على أول درجة في السلم . الغريب أن هذا الضوء لا يضيء ما حوله ، لا يضيء سوى نفسه . لا يلقي على محيطه أي انكشاف أو رؤية . متبعثرة أطرافه كصاعقة صغيرة مسالمة . نفس عناصر الخرقة المبلولة في يدي . فهي رطبة في ذاتها غير مرطبة لغيرها . رغم أنها مبلولة كأنما غمست في ماء ، إذا نقلتها من يد إلى أخرى جف كل شيء في اليد التي تركتها ، كأنما لم تمسسها قبل ثوان . عالم فيه كل شيء لا يحيل إلى غيره . كل شيء لا يعرف عن وجود الأشياء التي تحيط به . كل شيء فيه خلق وحيدا مكتفيا بوجوده منعزلا فيه . حتى الظلمة التي شاهدتها تطل من الفتحة التي انفرجت أمامي ، لاحظت أنها ظلمة لم تأت بسبب غياب الضوء ، وإنما هي ظلمة مركبة كأنها دهان أسود طليت به الفراغات التي يجوس فيها الهواء . وضعت قدمي على السلم الهابط إلى العالم السفلي . تأكدت ان هناك درجا يلتوي على العمود ، فأخذ الضوء يبتعد عني نزولا ، فتبعته وقبل أن أتم عدداً من الخطوات التفت إلى الخلف لأعرف من أين أتيت . فتبين لي أن الفتحة التي دخلت منها اختفت . فيممت وجهي شطر العالم السفلي ، لا استطيع أن أحدد كم مضى من الوقت إلى أن عرفت أني لم أعد أنزل وإنما أسير على أرض مستوية . والضوء مازال يسير أمامي . شعرت بالقشعريرة في العالم السفلي الذي دخلت فيه . فأصبح ذلك الضوء هو بصري الذي يتقدمني وحنان قلبي الذي ألاحقه . وبعد قليل تلاشى ذلك الضوء كأنه لم يكن موجوداً من قبل ، مسح من ذاكرتي . بدأت أشياء هذا العالم تظهر لتعكس نفسها على بصري ، وكأن هناك مصادر في وجود آخر ينتج الضوء . فانكشف لي المكان لأرى أشياء تعز على الوصف . تغشاها إضاءات رمادية منوعة . كأنها تأخذ طاقتها من أقمار شاحبة اندثرت منذ ملايين السنين . ولم يبق منها سوى فتات وميضها التائه في هذا العالم الخرب . لم يكن المكان غريبا على ذاكرتي لعله تولد يوما في احد أحلامي ، أحسست أني أتجول في نزل مهجور أو حياله من الحياييل . حيث ترى نخلات جافة متباعدة تعاني من أحزان موتها العتيق . كل شيء غارق في الجفاف تعوزه أبسط شروط الحياة . لولا تلك الشيلة المبلولة التي بقيت في يدي لاهتزت روحي الإنسانية . تشبثت يدي فيها في طلاب أي شيء يزيل هذا التوحش المحيط بالأشياء . تصاعدت في داخلي مشاعر الغربة ولكني أحسست أن جسدي دافئ متحصن بحب الله ورسوله الذي تصدى للخوف ، فبدوت كالمؤمن الذي ينام قرير العين في قبره .
بعد غد نستأنف الرحلة إلى الجنيّة التي أحبتني.
فاكس 4702164
|