Monday 31th May,200411568العددالأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

يارا يارا
الجنيّة التي أحبتني (2)
عبدالله بن بخيت

سمعت صوتاً لا يشبه أي صوت سمعته من قبل . صوت أنثى أو صوت طفل مدمج في صرير مكتوم ، ولكنه يبقى نائياً كأنما هو قادم من عوالم أخرى . أصرت يدي على الخرقة وعيناي تركزتا على كومة الحطب . انتظرت أن يخرج أي شيء أو يعيد الصوت نفسه مرة أخرى . لا أعرف كيف تبادر إلى ذهني العمود المنتصب بجانب المطبخ دون سواه . لم أفكر في أمي أو أبي أو أي من البشر لأطلب العون لتحطيم الظمأ والظلام . طاف في ذهني العالم بسرعة وكأني على وشك أن أغادره . انحدرت الأخيلة من بعيد .. وتجمعت منذ أول يوم عرفت فيه التمييز بين الأحلام والحقيقة . منذ أول حلم حلمته وسعدت بامتلاكه وتفردي به . عالم هادر من الخزعبلات صنعتها مخيلتي تريد أن تقتلعني الآن . وبعد قليل أشك أني سمعت الصوت مرة أخرى . ثم لمحت على الفور شيئا انبثق من كومة الحط ، انسل كالضوء أو هو الضوء نفسه . مرق من أمامي راكضاً إلى بطن البيت ، فعدوت خلفه بانخطاف . لم يكن يمضي في سرعة الضوء الخارقة . كنت قادراً على مجاراته . فوصلنا معاً تقريباً إلى عمود المطبخ فالتوى ناحيتي كأنه ينظر إليّ ، فتقدمت نحوه وأنا ممتلئ برسالة تريد أن تبوح بنفسها إليه . كأنما بيننا لغة صامتة تختلج في أعماق الوجدان . اقتربت منه ملبيا نداء المجهول. وفي اللحظة التي كدت أن أتحسس عناصر كينونته ، شاهدت درجاً ينفتح على قبو لم يظهر منه سوى مسحة من ظلمة شفافة تغطي أطراف السلم العليا التي تأخذك إلى أسفله . شعرت بهواء بارد تتخلله رائحة بخور قديمة وكأنه يصدر من خلوة مسجد مهجور . فقفز الضوء فيه ووضع كتلته على أول درجة في السلم . الغريب أن هذا الضوء لا يضيء ما حوله ، لا يضيء سوى نفسه . لا يلقي على محيطه أي انكشاف أو رؤية . متبعثرة أطرافه كصاعقة صغيرة مسالمة . نفس عناصر الخرقة المبلولة في يدي . فهي رطبة في ذاتها غير مرطبة لغيرها . رغم أنها مبلولة كأنما غمست في ماء ، إذا نقلتها من يد إلى أخرى جف كل شيء في اليد التي تركتها ، كأنما لم تمسسها قبل ثوان . عالم فيه كل شيء لا يحيل إلى غيره . كل شيء لا يعرف عن وجود الأشياء التي تحيط به . كل شيء فيه خلق وحيدا مكتفيا بوجوده منعزلا فيه . حتى الظلمة التي شاهدتها تطل من الفتحة التي انفرجت أمامي ، لاحظت أنها ظلمة لم تأت بسبب غياب الضوء ، وإنما هي ظلمة مركبة كأنها دهان أسود طليت به الفراغات التي يجوس فيها الهواء . وضعت قدمي على السلم الهابط إلى العالم السفلي . تأكدت ان هناك درجا يلتوي على العمود ، فأخذ الضوء يبتعد عني نزولا ، فتبعته وقبل أن أتم عدداً من الخطوات التفت إلى الخلف لأعرف من أين أتيت . فتبين لي أن الفتحة التي دخلت منها اختفت . فيممت وجهي شطر العالم السفلي ، لا استطيع أن أحدد كم مضى من الوقت إلى أن عرفت أني لم أعد أنزل وإنما أسير على أرض مستوية . والضوء مازال يسير أمامي . شعرت بالقشعريرة في العالم السفلي الذي دخلت فيه . فأصبح ذلك الضوء هو بصري الذي يتقدمني وحنان قلبي الذي ألاحقه . وبعد قليل تلاشى ذلك الضوء كأنه لم يكن موجوداً من قبل ، مسح من ذاكرتي . بدأت أشياء هذا العالم تظهر لتعكس نفسها على بصري ، وكأن هناك مصادر في وجود آخر ينتج الضوء . فانكشف لي المكان لأرى أشياء تعز على الوصف . تغشاها إضاءات رمادية منوعة . كأنها تأخذ طاقتها من أقمار شاحبة اندثرت منذ ملايين السنين . ولم يبق منها سوى فتات وميضها التائه في هذا العالم الخرب . لم يكن المكان غريبا على ذاكرتي لعله تولد يوما في احد أحلامي ، أحسست أني أتجول في نزل مهجور أو حياله من الحياييل . حيث ترى نخلات جافة متباعدة تعاني من أحزان موتها العتيق . كل شيء غارق في الجفاف تعوزه أبسط شروط الحياة . لولا تلك الشيلة المبلولة التي بقيت في يدي لاهتزت روحي الإنسانية . تشبثت يدي فيها في طلاب أي شيء يزيل هذا التوحش المحيط بالأشياء . تصاعدت في داخلي مشاعر الغربة ولكني أحسست أن جسدي دافئ متحصن بحب الله ورسوله الذي تصدى للخوف ، فبدوت كالمؤمن الذي ينام قرير العين في قبره .
بعد غد نستأنف الرحلة إلى الجنيّة التي أحبتني.

فاكس 4702164


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved