كنت قد نشرت قبل حين في صحيفة (الجزيرة) حديثاً طويلاً بعنوان (رؤية ورأي حول السعودة)، حاولت من خلاله طرح موقف متوازن حول (السعودة)، وهو موضوع كان وما برح الشغل الشاغل للمواطن والمسؤول على حد سواء, وقد حاولتُ عبر ذلك الطرح (تنقية) مناخ الجدل حول (السعودة) من بعض عناصر التلوّث الفكري الذي تُكال في ضوئه التُّهم أصْواعاً, وتكون المواقف حوله انطباعاً, وتُصَاغ الأحكامُ بشأنه ارتجالاً، وأكثرها لا يقوم على حجةٍ ولا حكمةٍ ولا دليل!.
******
** فهناك مَن يتهم ربَّ العمل بممارسة التمييز ضدّ المواطن الراغب في العمل، مرجحاً بذلك كفّةَ الوافد، لأسباب متفرقة.
** وهناك مَن يتّهم المواطن طالب العمل بأنه لا يملك المقوّمات الأساسية التي تؤهله لشغل وظيفة القطاع الأهلي، قدرةً وتحملاً وأداءً وسلوكاً!.
** وهناك مَن يتّهم جهات الاختصاص المعنيّة بموضوع العمالة, رسميةً وأهليةً، بشيء من التقصير، ولذا بقي الباب مفتوحاً للقطاع الاهلي لممارسة اجتهادات ومبادرات ينتهي أغلبها في خانة لا تخدم المواطنَ في شيء، ولتبقى يدُ الوافد، وظيفياً، هي العُليا!.
** واليوم أطرح من جديد بعض الاستنتاجات حول الموضوع ألخصها في المحاور التالية:
أولاً: إن هناك قدراً من الحق، ومثله من الباطل، في كثير مما ذكر أعلاه، فلا يملك أحدٌ من أصحاب الأدوار المتعلقة بالقضية ادعاءَ الكمال فيما يقول ويفعل في هذا السبيل. كلُّهم يجتهدون في تلمس الحلول، وكلهم يجدُّون في التوفيق بين المصالح المتضاربة حيناً، والمتشابكة أغلب الأحيان!.
******
ثانياً: في تقديري المتواضع أن ربَّ العمل يبحث عن العمالة الجادة الفاعلة المؤهلة التي تقربه من واحة الربح، وتجنّبه شفير الخسارة، وهذا حقٌّ شرعيّ ومنطقي في آن. وإذا كان المواطن يملك هذه المعادلةَ فما أحسبُ ربَّ العمل له رافضاً لمصلحة الوافد. أما المزايدة على (وطنية) رب العمل أو التشْكيك في ولائه وانتمائه، أو الادعاء بأنه يناصب المواطنَ العداءَ ترجيحاً للوافدِ، فقولٌ مردود مرفُوض.
******
ثالثاً: يستوي مع ما سبق القولُ غير الحقّ بأن المواطنَ لا يملكُ المقوِّماتِ والحيثياتِ التي تتطلبها بيئةُ العمل في القطاع الأهلي؛ لأن تربيته في البيت والمدرسة والجامعة لا تؤهلُه لذلك.
وأزعم أنّ في هذا القول قدْراً من الجَوْر والتعميم غير السويّ؛ لأن الأخذ به على إطلاقه من لدن أيّ فئة، بغضّ النظر عن هُويّتها ومرجعيّتها ، يقيمُ الحجة على المواطن، ويعيدُنا جميعاً إلى (المربّع رقم واحد)، لنبدأ منه حواراً يائساً لا يُثري فكراً، ولا يرضي لُبًّا! ولا يبلغ أرباً!.
******
رابعاً: لقد أضحيت الآن أكثر اقتناعاً بأن (مشوار الألف ميل) في التعامل مع موضوع (السعودة) يبدأ وينتهي بخطوة واحدة، هي التدريبُ تدريباً يؤهِّل المواطن للعمل، مهنياً وسلوكياً وخُلقياً، وبدُون التدريب المؤهِّل والجادّ والمتطوّر عُدةً وآليّةً ومضموناً ستظلّ (السعودة) معلقةً على شماعة الاتهامات والاعتذارات والإسقاطات.. بلا حل! ويستوي مع (التدريب) أهمية إعادةُ التأهيل لمَنْ ترفضه آلية سوق العمل!.
******
ولعل من الملائم أن أختمَ حديث اليوم باقتطاف أجزاء من مداخلة رصينة جاءتني عبر رسالة خاصة من رجل الاعمال المعروف الصديق الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن آل سعود، كتبها سموه تعليقاً على حديثي السابق عن (السعودة)؛ إذ كتب سموه يقول: (لقد أشرتَ الى نقاط كثيرة لو أُخِذتْ في الاعتبار بجديّة في السابق لكان الوضعُ أفضلَ مما نحن فيه الآن. على أنه بحمد الله قد تحقق الكثير إلى الآن، فالأمر.. ليس وليد اليوم بل هو قديم، وكلّ قديم مستمر له تراكماته، والأمر يتطلب وقفة جد ومصارحة.. وإلى جهد جماعي.. وإيجادُ الحلول يتطلب المعلومات في زمن لا حياة فيه تُذكر لمن لا يقدر ثمن المعلومات..).
وختم سموه مداخلتَه قائلاً: (وأنا أرى أنَّ نعتَ هذه القضية بالسعودة هو أمر وصفي أثرُه في جذب الاهتمام أكبر من التركيز على موطن العلة، فالسعودة متأثرة بالسبب وليست هي السبب. القضية في نظري قضية تدريب أكثرُ منها سعودة، فلو أن قضية التدريب حُلّت لكانت حدّة السعودة الآن من القضايا الثانوية)!.
******
نعم التدريب هو القضية وهو المشكلة.. وهو الحل!.
|