جمعت مبلغاً لا بأس به، جمعته من كدي وعرق جبيني طوال سبع سنوات وأخذت أفكر هل أشتري منزلاً أو أرضاً أو أتزوج؟ وفكرت جيداً ثم قررت أن أتزوج، نعم لقد قررت الزواج ثم ذهبت إلى إنسان بهذه الدنيا وخطبت منه بدون واسطة فوافق ولم يطلب مني شيئاً أبداً إنما قال: الذي يأتي منك فيه البركة وأنا أعرف ظروفك فإذا كنت مدخراً مبلغاً من المال اجعل نصفه لتأثيث بيتك ودفعت ما مقداره أربعة آلاف ريال بدون أي شيء.. وتم الزواج وانتقلت زوجتي إلى بيتي الذي استأجرته وأدخلت فيه الثلاجة والتلفزيون والغسالة، ولقد عشت أيام زواجي بسعادة وهناء وعشنا في شبه حلم.. حلم جميل رائع وتستمر حياتي على هذا النحو طبيعية هادئة وزوجتي تحثني على العمل والادخار لكي نحصل على مبلغ ونشتري به بيتاً نرتاح من الإيجار، وفي آخر السنة تضع زوجتي مولوداً ذكراً أسميته (أحمد) فملأ بيتنا سعادة وسروراً وتمضي الأيام بمسرات رزقت بمولود آخر أسميته (سليمان) فغدا بيتنا الصغير كالحديقة التي ترفرف فيها العصافير وتسير حياتنا كلها أنس وتفاهم تام لم أذكر في يوم من الأيام أنني اشتبكت أنا وزوجتي في عراك عائلي أبداً إنما كانت تفهمني وتراعي ظروفي وتحب أمي التي تعتبرها أمها في كل شيء وتأخذ رأيها في الأشياء العامة والخاصة وتحب عائلتي وكذلك أهلي يقدرونها، ولم تطلب مني شيئاً لا أستطيعه وبدأت الثمرة الثالثة تتحرك وأخذت دائماً أقول لها المرة هذه يا حبيبتي أريد منك بنتاً أرى فيها صورتك، وتقدمت شهور الحمل وكان بعكس السابق لقد بدأت مع هذا الحمل المتاعب والإرهاق والإغماء.
وذهبت بها إلى المستشفى ثم إلى دكتورة خاصة وأخيراً طلبت من الدكتورة أن تأتي إلى زوجتي كل أسبوع في بيتنا وتأتي أمها عندنا في البيت لكي تكون بجوار بنتها وأمي تنشغل بشؤون البيت والأطفال.
وبدأت سعادتي الكبيرة تختفي شيئاً فشيئاً ليحل محلها قلق خفي.. وكانت زوجتي تشحب، وينطفىء في وجنتيها وهج الحياة ويخفت في عينيها نورها الجميل وجاء يوم الوضع وخرجت إلى دنيانا الفتاة التي حلمنا بها طوال هذه الشهور الثقيلة، وكانت (حصة) صورة صغيرة من أمها وكأن القدر أراد لصورة هذه الحبيبة ألا تختفي فأودع الحياة في بديلها، نعم فقد ماتت زوجتي الحبيبة التي وهبتني السعادة في الأيام الأولى من الولادة، وكانت صدمة كبرى بالنسبة لي ولأطفالي الصغار وبقيت أم زوجتي عند أمي في البيت وكذلك زوجها يخففون عني من وقع الصدمة ثم يذهبون وتبقى أمي الحنون في رعاية أطفالي، وبعد وفاة زوجتي قررت عدم الزواج وبقيت سنتين وأنا وحيد بدون زوجة ثم تطلب مني الوالدة وتصر على أن أتزوج بعد إلحاح الوالدة، وافقت على طلبها ورجعت إلى رصيدي ووجدته سبعة آلاف ريال ثم جلست أفكر فيمن أذهب إليه أخطب منه..
وأخيراً وجدته انه صديقي (أبو سالم) سوف أطلب يد بنته (بدرية) التي طلقت قبل عام وذهبت إليه ووافق على طلبي بعد أن شدد في الجهاز والمهر وأخيراً أرسلت له رصيدي كاملاً بدون نقص وتسلّفت مبلغ ثلاثة آلاف ريال لكي يكون معي للعشاء ومستلزمات ليلة الزفاف .. وتم الزواج ورحلت زوجتي (بدرية) إلى بيتي ووجدت فيه أمي وأطفالي الصغار (أحمد وسليمان وحصة) وبدأت حياتنا تسير كما تسير حياة آلاف العائلات.
وتمضي الأيام وتنتهي أشهر الزواج وأنا في الصباح أعمل في الورشة والظهر أرتاح حتى قبل العصر ثم أذهب إلى الورشة حتى المغرب ثم آتي إلى بيتي وأنا تعب مرهق من العمل والعمال والزبائن ثم أجلس عند التلفزيون مع أطفالي نضحك ونلهو حتى بعد العشاء ثم ننام هذه قصتي اليومية والقصة طبيعية ليس فيها جديد وأنا راض عن حياتي لولا أن زوجتي تحمّل أولادي الصغار مالا طاقة لهم به، فأحمد ينظف البيت ودائماً عليه (فنيلة وسروال صغير) وسليمان يذهب حيثما ترسله وطفلتي حصة تشرف عليها أمي وذات مرة عندما أبديت ملاحظتي على بعض تصرفاتها نحو الأولاد قالت: أنت تدلعهم كثيراً قلت أنت أمهم فيجب أن تعطفي عليهم، قالت بغضب: أنا لست أمهم أنا زوجة أبيهم، وزوجتي أحياناً تعارض أمي ومرة تكلّمت على طفلتي حصة وصارت تسب وتلعن لماذا تدخل المطبخ، لكن أمي تقول لها ما حصل إلا الطيب وهدئي من روعك لكن زوجتي تغضب وتخرج من البيت إلى أهلها ولما عدت من العمل وجدت أمي فأخبرتني بالقصة وبعد المغرب ذهبت إلى أبيها ولكنه قابلني بالكلام الطويل العريض إلى أن قال أنا زوجتك أنت لم أزوج أمك، فهي تفرض أوامرها على بنتي فاهم أرجو أن تكون هذه آخر مرة.. ثم انصرفت أنا وزوجتي من عنده وأنا أفكر هذا صديقي (أبو سالم) يكلمني بهذا الشكل.. وأخيراً وصلنا البيت وزوجتي تقول: أنا لن أجلس عندك ما دامت أمك موجودة في البيت ومضى أسبوع على هذه الزوبعة ويأتي يوم تضرب فيه زوجتي ابني (أحمد) ضرباً شديداً بالعصا ثم تقوم أمي وتخلص ابني منها وتتكلم على أمي وتقوم القيامة وأخيراً تذهب أمي إلى عند أخي الكبير ومعها طفلتي الصغيرة (حصة) وتبقى زوجتي في البيت وحدها مع أولادي وإذا طلبت شيئاً يجب أن ينفذ بأسرع وقت وكل شهر فستان جديد من غير فستان المناسبات وأولادي كأنهم خدم عندها، وأدخل أبنائي روضة الأطفال في الصباح لكن لم أتخلص من المشكلة، وأصمم على الطلاق لكن أقاربي يرفضون ويقولون من أين لك مهر عشرة آلاف مرة ثانية، (أبلع العافية، يمكن تتغير إن شاء الله) ومع كل هذه المشاكل لم أنس في يوم من الأيام صورة زوجتي السابقة كانت تتمثل لي دائماً وخاصة حينما أنظر إلى بنتي (حصة).
وتمضي الأيام حاملة معها أحداثاً مروعة، فقد رجعت إلى المنزل ذات يوم والصراخ ينبعث من داخل بيتي والباب مفتوح والجيران يزحمون المدخل ودخلت المنزل لأجد ابني (سليمان) مطروحاً على الأرض والدماء تنزف منه بشدة وهالني الأمر.. وبسرعة اتصلت بالمستشفى وجاءت سيارة الإسعاف ونقلت ابني إلى المستشفى وأجرى له الدكتور المناوب عملية سريعة لكي يقف النزيف لكن ما من جدوى وينتقل ابني إلى رحمة ربه وهو على سرير العمليات ورجعنا إلى البيت والحزن والألم على وجهي بعد أن فقدت ابناً كان يملأ البيت ضحكاً ومرحاً لقد فقدت هذه الحياة المتدفقة والحيوية الفياضة كل هذا يختفي في لحظة، وتنطفىء شعلة في غمضة عين؟ وسألت (بدرية) كيف حدث هذا وجاني الصوت المتحشرج لقد سقط من أعلى الدرج ولم أستطع أن أواصل أسئلتي، ونمت لأستيقظ في اليوم التالي لأجد بيتي ساكناً سكون الموت وتنتشر فيه الأحزان والآلام، وعشت أسابيع في مأتم وحزن، وكان الجو الذي يسود بيني وبين زوجتي هو الصمت لقلة ما نتبادله من كلمات وكانت (بدرية) في هذه الفترة تحولت إلى قطعة هادئة لا تتحرك إلا حركات صماء مجردة من كل معنى بعكس ما كانت عليه في الأول واستغربت منها هذا، ولكنني فوجئت ذات يوم أن (بدرية) تضحك وتتكلم بصوت مرتفع وذهلت منها، عجيب أمر هذه المرأة ماذا أصابها ثم ذهبت بها إلى بيت أبيها ونأتي بالدكتور ليقرر أنها مصابة باضطراب عقلي شديد اثر صدمة.. وفي هذه المدة كنت أعيش عند أخي إنساناً تائهاً ضائعاً.. وفي يوم جلست فيه مع ابني أحمد وضممته إلى صدري وهو يقول:
(أنا أحبك يا بابا وأحب أخوي (سليمان) وهو لازم يشوف ماما عند ربي، صحيح يا بابا) فقلت نعم يا أحمد إن شاء الله تعالى لكن يوم سقط أخوك من الدرج كنت فين؟ قال أنا كنت أغسل الصحون وخالتي بدرية(يقصد زوجتي) تتكلم على أخوي (سليمان) وتضربه وهرب منها وهي تلحق به ثم سقط من الدرج على الأرض وصار رأسه يصب دماً كثيراً وهربت إلى عند جدتي وأنا أصيح أخوي.. أخوي مات، وأنا الآن يا بابا أخاف من خالتي بدرية كثيراً، ولا أحب بيتنا لأن أخوي مات فيه - ويبكي طفلي المسكين ويرتعد - ويقول أخوي سليمان يصيح ويقول ماما.. ماما فين أنتِ ويصرخ بابا.. بابا وأضمه إلى صدري بحنان وعاطفة أبوية صادقة وتنهمر من عيوني الدموع.
|