الباحث الحقيقي في ظمأ مستمر إلى المعرفة والاستزادة منها، وإثراء فكره من مصادرها، مع حرص على تخير هذه المصادر؛ لأنها زاد، والزاد - حسياً وكذا معنوياً - فيه ما يضر وفيه ما ينفع، مما يجعل التخير ضرورة من ضرورات العقل والفطنة.
والقدوة أسلوب يانعة ثمراته في بستان ذلك التخير ولاسيما إذا كان هذا القدوة في فنه يغترف بوحه من رحابة مورد، ومن سعة ميدان، مستبطناً المنجز الحضاري عبر نواصع التاريخ، ورفيع الغايات والأهداف، بقامته الممدودة التي تعانق الإبداع في سلاسة مبهرة كما هو حال أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري.
من الصعب جداً الحديث عن الجانب الذاتي في تكوين شخصية الشيخ أبي عبدالرحمن وملكاته الشخصية، والأصعب حقاً الحديث عن رصيده المعرفي والثقافي؛ فإن نظرة عابرة إلى إسهاماته الفكرية في المجالات العلمية والثقافية والأدبية ومؤلفاته تنبئك عن ذي بيان يملك استعداداً ذاتياً متميزاً بتعدد الملكات والقدرات، ويملك رصيداً معرفياً يجعلك تظن أنه ليس هناك كتابٌ لم يقرأه، ثم لن يغيب عن فطنتك إن كنت ذا فطنة ما يتميز به من النظر الموسوعي ذي الطبيعة الشمولية في تناوله للموضوعات التي يطرحها على قرائه ومحاوريه.
إن أبا عبدالرحمن قدوة في مجال تخصصه، والمجتمع بحاجة إلى نماذج من هذه القُدوة يتعلّم من خلال ملاحظتها وتقليدها أنماط السلوك الاجتماعي السليم؛ لأن الملاحظة هي بوابة التقليد والعرب تقول:
الطّبع يسرق من الطبع والقدوة الصالحة وسيلة مثلى لبذر الخير في النفوس وعندما يصبح المثقف قدوة صالحة فإن المناخ يكون مهيئاً لبيئةٍ صالحةٍ، وإذا أردت أن تعرف قيمة أمة من الأمم فتعرف على من هم رجالها الذين يحملون مشعل فكرها وثقافتها.
وأبوعبدالرحمن في إنتاجه الفكري يستحضر الأساس الذي لا يقوم البنيان إلا عليه ويلامس العمقَ الذي لا يشتد العودُ إلا به، جامعاً بين الانفتاح على الآخر وبين الاعتزاز بشخصيته الإيمانية أولاً ثم شخصيته الفكرية عموماً مما يؤهله أن يكون قدوة في فنه.
نعم المنهج هو الأساس فقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (108) سورة يوسف، ثم نعم فالمقومات هي العمق يقول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن 1 - 4، قال بعض المفسرين: (البيان: المنطق فعلَّمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده) (الرازي، التفسير الكبير 15 - 86)، ومن ذا الذي لا يطمع في الاستفادة من معين أبي عبدالرحمن ودُرره وحديثه الماتع، وهو من إذا قيل مفكر قفز إلى الذهن تميّزه وتبادر إلى الأذهان اسمه.
الدكتور أمين بن سليمان سيدو الباحث المعروف لامس حاجة الباحثين إلى توثيق ببليوجرافي للإنتاج الفكري لأبي عبدالرحمن فأصدر كتاب (شيخ الكتبة أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري - حياته وآثاره وما كتب عنه-) الذي قام بنشره مشكوراً النادي الأدبي بالرياض في طبعته الأولى عام 1425هـ.
بدأ المؤلف كتابه بسرد جريدة ترجمة أبي عبدالرحمن مسلطاً الضوء على ما يهم القارئ معرفته عن هذا العلم منذ مولده وحتى أصبح قمة فكرية مشهورة، مستعرضاً أهم الوقفات في حياته الشخصية والعلمية والعملية، ومبرزاً أهم رؤاه وعناصر منهجه الفكري، ثم أورد نماذج توضيحية للتسجيلات الببليوجرافية لفهم رؤاه ومنهجه، ليصل بعد ذلك إلى السجل الببليوجرافي، الذي تضمن الكتب المستقلة، ثم البحوث والدراسات المنشورة في الدوريات، ثم المقالات والقصائد المنشورة في الصحف اليومية، ثم الحوارات الفكرية والصحفية التي أجريت معه، ويختم المؤلف كتابه بثلاثة مباحث يجمعها أنها توثق ما قيل عن الشيخ أبي عبدالرحمن، فالمبحث الأول (أبوعبدالرحمن في آثار الدارسين) تسجيل ببليوجرافي لما نشر في الصحف والمجلات عن أبي عبدالرحمن، والمبحثان الثاني والثالث تضمنا: ذكر نماذج من أقوال المثقفين والشعراء في شيخ الكتبة.الكتاب جاء بالحجم المعهود للكتب في قرابة مائتين وأربعين صفحة بطباعة جميلة وإخراج رائع، ليواكب مناسبة تكريم النادي الأدبي بالرياض لأحد رؤسائه ومؤسسيه، بمبادرة كريمة من رئيسه الحالي الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيع، الذي حرص على تكريم المسهمين في إثراء النادي الأدبي وصبغ هذا التكريم بصبغة علمية تناسب رسالة النادي، وتستجيب لطموحات المثقفين.
ص ب 30242 الرياض 11477
|