**حلقات يكتبها - سليم صالح الحريص - تصوير: حمدان حسين:
.. حين تعود إلى وسط المدينة تتراءى لك الكثير من الصور وتستعيد وجه البلدة القديمة. تريد أن تخطو صوب كل مواطن الذكريات.. بعض الأمكنة مازالت تتكئ على كم وفير من الذكريات بل ومن الصور.. تغمض العين.. وتعيد ذاكرتك إلى الوراء.. أمكنة تفرد ذراعيها كي تبثك ذكرياتها والأدمع تتدفق بغزارة على أمسها والبعض منها تصافحك بحنان.. بعاطفة جياشة تشعرك بصدقها.. بحميميتها وذلك الجو الذي تشيعه.. تبثه.. هي صداقة مع المكان.. فالصداقة تبنى أيضاً مع الأمكنة وليست محصورة على الإنسان فقط.. كثير من الأمكنة تألفها.. تشعرك بالأمان وتشعر بالأنس وأنت تقيم فيها حتى ولو كنت وحيداً.. إنها تسامرك.. تحدثك.. إنها جزء من ذاكرتك.. بل قد تكون كل الذاكرة.. تعيش معها وبها. تبقى أقوى من النسيان (رفيقنا اليوم) عصيبة على أن تتناولها معاول المسح والشطب. تظل الصورة راسخة لن تهترىء ولن يحل مكانها بديل آخر.. إنها الروح.. والمكان له روح وإن لم يتنفس.. العاطفة الجياشة تخيم عليك والحميمية تتدفق بينك وبين المكان فتراك مشدودا إليه أكثر... يعتقلك.. يحيطك بمشاعر فقدتها منذ سنين.. أمكنة كثيرة هي مساحة ذاكرتنا... مساحة من أعمارنا ومساحة لذلك البهاء الذي ظللنا قبل تمدد الجسر المادي في حياتنا وقبل أن تشاد جسور المصالح... وقناطر العلاقات الباردة... إنها مساحة كبيرة من الذاكرة قادتني إلى حي الصالحية والكثير من أبناء مدينتي لا يعرف أين هو ولا في أية جهة ، ولمن لايعرفه فهو الحي المحصور ما بين شارع الملك خالد وشارع الملك عبدالعزيز وشارع طريف. هناك حيث (بركة) الصياح وبركة (اليوسف) وبركة (ربيع) وإلى الجنوب منها بركة (الفريحي) وهذه هي المصادر المائية لهذا الحي والأحياء المجاورة.. وكانت الصورة التي تطالعنا مع اشراقات الصباح تلك النسوة وهن يرتدن هذه الموارد لينقلن الماء على رؤوسهن مرات ومرات وقبيل الغروب... صورة اندثرت وموارد جفت مياهها وعلق في الذاكرة ما علق من ذكريات لن تبرح مكانها ولن تذيبها الأيام أو تمحوها.. حي حفل بالكثير.. أناس كانت الألفة سحابة ممطرة على منازلهم.. تواصل لن تجده وترابط انفرطت حلقاته.. هنا منزل (عثمان الزيد) وبالقرب منه منزل عبدالرحمن اليوسف وجواره حمود السردي وعبيد البويدي وصياح المفضي رحمهم الله. وهناك حيث منزل مطلق الصالح (وكيل وزارة المالية لأملاك الدولة سابقاً) وهنا مسجد (ابن يوسف) حيث كانت وجوه كثيرة تزرع الابتسامة وتنثر روائحها وعبق طيبها.. هنا أرى (عشبان وسعود وعثمان وصيّاح وعبدالعزيز والبدين والكثير ممن قد نسيتهم الذاكرة عليهم رحمة الله. هذه القامات غادرتنا. تركت لنا الكثير من الصور الرائعة والكثير من الصفات الجميلة في حياتهم وصلاتهم وترابطهم الذي يندر أن ترى أو تجد نظيرا له. قد كانوا روادا وكانت منطقة رائدة ومتفردة في خصوصياتها واشراقاتها التي أضاءت السماء لسنوات فما الذي أخذناه عنهم؟؟ وما هو الشيء الذي اقتفينا أثرهم فيه.....؟؟؟
.. تقودك الخطى إلى أماكن حفلت بالكثير.. هنا في هذا المكان شهد ولادة أول جمعية تعاونية في المملكة.. قد كانت الولادة مبنية على أسس سليمة فجاء المولود متعافيا.. قاد النجاح الذي حققته الجمعية الآخرين في مناطق أخرى إلى أن تكون تجربة القريات مع التعاون منارة أضاءت الطريق لهم في تأسيس جمعيات تعاونية في مناطقهم. ليتبلور فيما بعد ويصدر نظام التعاون. هنا كان الغرس.. وعلى هذه الأرض أثمر التعاون. قد غرسوا وسقوا ورعوا. هنا كان مشروع الدجاج البياض واللاحم ومشروع الأبقار وعلى الطرف الآخر كان الإسكان وعلى ذلك الطرف مطحنة الملح.. وعلى بعد وقف سوق التموين وبالقرب منه كان المخبز الذي لبى حاجة المدينة ووفر حاجيات المواطن من الخبر ومشتقاته.. فعلا قد كان للجمعية (دنّة ورنّة) وقد كان لرجالاتها القائمين عليها الدور الطليعي على أن الصبر والتحمل يصنعان المستحيل... تذكر المعالم الباقية والصور التي رصدت وحفظت مرحلة زمنية مهمة من تاريخ القريات المشرق. ترى صورة معالي الأستاذ عبدالله السديري مؤسس أول جمعية تعاونية في المملكة وشقيقه سلطان رحمه الله وتريك بقية الصور وجوه عديدة غيبها الموت عنا أو غابت عن أرضنا. لكن بقيت ذاكرة الأمس وفية لهم ولما قاموا به. تطلعك الصورة على عبدالهادي الفندي وسلامة البطحي وعبدالله السماحي وجعفر جمل الليل عليهم رحمة الله ومن الأحياء إبراهيم حبرم وسليمان مقنط وسليمان الكويليت وغيرهم ممن أشادوا وأسهموا في بلورة روح التعاون بثوب منظم وآليات عمل وعلى أيديهم كانت ولادة عطاء بناء ومتميز شُهد لهم به وشُهد على ريادتهم. وأضافوا لبنات قدمت خدمات جليلة لمجتمع القريات الذي شهد ولادة أكثر من عمل اعتبرت القريات فيها راشدة للأوليات على مستوى المملكة.
حول ولادة الجمعية حدثني الوالد عبدالله بن حمد السماحي خلال لقاء أجريته معه قبل وفاته عليه رحمة الله وهو من رجال الرعيل الأول فقال.
بعد تعين عبدالله السديري أميرا ومفتشا للمنطقة وقد عايش ظروف المنطقة وأحوال المجتمع فتبلورت فكرة الجمعية وفقا لما هو موجود بالأردن حيث سبقونا إلى هذا المجال فأستأنس برأي وزير الزراعة في الأردن الشقيق وأيامها كان معالي السيد نصوح الطاهر وقد وجد كل دعم ومعونة فقام بالكتابة لوزارة الزراعة والمياه في المملكة فأوفد وكيل الوزارة يادكوك مندوبا هو المهندس خالد الناصر وهو أردني فكلفني معالي الأمير بالسفر معه إلى الأردن وتمت إعارة المهندس طلال ومن ثم اتجهنا إلى بيروت واتفقنا مع شركة (الكونتوار) على شراء (3000) آلاف طير وأخذنا حاضنة دجاج من عمان وقد كانت هذه المشتروات على حساب الأمير وذلك بهدف إقناع الناس بالفكرة وتشجيعهم ، وبدأت الفكرة تأخذ طريقها إلى التنفيذ وبتضافر الجهود انطلقت مراحل التأسيس وفتح باب الاكتتاب بالأسهم وقيمة كل سهم (50) ريالا وشرع في بناء حظائر الدجاج واللبنات الأولى في مشروع الأبقار وسارت الأمور وفق ما خطط له وكانت الجمعية أول جمعية تعاونية متعددة الأغراض على مستوى المملكة وعند صدور نظام التعاون سجلت الجمعية . وقد شكل مجلس للإدارة برئاسة معاليه ومجموعة من الإخوان وهناك لجنة المراقبة وبدأت الجمعية في تحقيق الأهداف التي أوجدت من أجلها ونظراً للنجاح الذي تحقق كان هناك تفكير في التوسع وعند مباشرة الأمير سلطان عمله أميراً خلفا لشقيقه رغب في تطوير منظومة العمل التعاوني وإكمال ما قام به شقيقه وقد أوفدني إلى عمان بطلب الحصول على أبقار من سلالة جيدة ومعروفة ورفع الأمر إلى دولة رئيس الوزراء الأردني آنذاك وصفي التل رحمة الله فاهتم بالأمر وأوصى المختصين بتقديم كل العون والمساعدة في حصولنا على أفضل السلالات وهذا ما حصل ليستكمل المشروع بتنفيذ السكن والمحلات التجارية وغير ذلك من خطوات كانت تصب في خدمة المجتمع المحلي.
.. إنها حقبة مضيئة جعلت من مجتمع القريات خلية نحل شهد الآخرون على قدرة هذا المجتمع وفي تلك الفترة تحديدا على قدرته ونزوعه إلى الإبداع والمبادرة وتلمس احتياجاته ومتطلبات يومه وكانت الجمعية فنارا متألقاً أتاح للآخرين الرؤيا واقتفاء الأثر.
حقبة مضت لكننا اليوم أحوج ما نكون لتفعيل دور الجمعية وبدء انطلاقة أخرى لتمارس دورها التعاوني وفق أطر أكثر تنظيما وانضباطية في العمل ورقيا في الأداء والممارسة. قد تكون الظروف مختلفة والمعطيات تبدلت والاحتياجات تنوعت وزادت لكن في أبناء القريات من يملك القدرة على التميز وتقديم ما هو جيد ومفيد ويتيح للجمعية القدرة على مجاراة العصر والاستفادة من تقنياته بما يحقق نقلة نوعية في أنشطتها وبرامجها وهذا ما نريده لها....!!
.. تغادر الجمعية وأنت مشدود إلى ملامح أمسها.. اللبنات الأولى.. تتذكر كم كان هذا الجزء من المدينة أكثر حيوية.. أكثر بهجة.. تسير في الطريق (الشارع العام) كيف كانت ملامحه وأشياؤه... مكوناته.. قد كانت مساحة شبه خالية.. أرضا رملية.. تسير في اتجاه مركز التنمية الاجتماعية.. حيث كان شعلة نشاط منذ انطلاقته وبدء ممارسة مهامه في العام 1382هـ بعد انجاز مبناه والذي جسد في حجمه وتعدد مرافقه الدور المناط به لخدمة المجتمع المحلي بدءا من برامج محو الأمية والأنشطة الثقافية وخدمية المجتمع المحلي والرعاية الصحية في القرى والتدريب النسائي ودور الفتاة التي أسهمت في المحافظة على الكثير من المنتجات المحلية كصناعة السجاد والبسط والبرامج الشبابية والأنشطة الزراعية وغير ذلك كثير وكثير.
قد كان هذا المركز منارة في مدينة القريات ومازال وعاء للأنشطة الثقافية والاحتفالات والملتقيات العامة ويكفي أنه أسهم في احتضان النادي الذي كان مولودا عام 1376هـ وله ملاعبه التي هي مقابل مبنى بلدية القريات ويحظى هذا النادي بدعم المركز المادي والمعنوي واحتضان أنشطته المختلفة في مقره بالمركز إلى أن انتقل إلى رعاية الشباب عند تسجيله عام 1395هـ ليولد ناد جديد هو نادي القريات والذي مازال يحظى بدعمه بشتى السبل.
.. حين تزور المركز خاصة ممن عايشوا تلك الفترة ترى كثيرا من الصور.. ترى الكثيرين ممن أسهموا في دعم أعمال هذا المركز سواء أكانوا موظفين وعاملين أو متعاونين متطوعين في المعسكرات الصيفية والتي ينفذها المركز للشباب لخدمة المجتمع المحلي وخاصة في القرى.. ترى فقيه ونعيم نمنكاتي وصالح الغبين وظاهرأبو شامة عليهم رحمة الله ومشوح هذال الشمري مديري المركز وغصوب الصغير الأخصائي الاجتماعي (الموسوعة) والرجل الفريد خلقاً وعملاً وتعاملا نذكره بكل خير وعابد إبراهيم الهلال رحمه الله وصالح العويضة ومجهد المعارك وغير هؤلاء الكثير ممن عبروا أبواب المركز وأسهموا بجهد وفق ما أتاحته لهم إمكانياتهم لكنه باق محفوظ في الذاكرة.. تتراءى لك صورهم وهم يمارسون لعبة تنس الطاولة أو البلياردو والكرة الطائرة وكرة القدم في ملعب النادي والذي أصبح مكانه محطة للوقود. ونشاطات منبرية وثقافية وصحف الحائط وصيحاتهم التي تملأ المكان فترى رئيس النادي في ذلك الوقت الأخ عبدالله خالد بختاور رحمه الله وهو كالشعلة في عطائه وحضوره وإسهاماته وصوته الجهوري وراكان الغبين ومحمد ملفي الخنجر وهايل الحزيم وغيرهم ممن سار على الطريق وقدموا الكثير لناد كان متميزا في المنطقة الشمالية ببرامجه ونشاطه وكثرة رحلاته لمدن المنطقة الشمالية . (أرجو المعذرة عن السهو وعدم ذكر أسماء أخرى).
.. الأمكنة باقية وإن تغيرت الملامح.. والذكريات باقية.. تتنفس الأمس بمجرد أن تعود للمكان... تستعيد أشياء كثيرة لكنه يصعب عليك أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء والأصعب أن ترى تلك الوجوه النيّرة ثانية وفي هذا المكان... لكنها مجرد ذكرى.
يتبع
|