تفاجأ السيد سعد وزوجته بحصولِ تشنجاتٍ متكررة لطفلهما الرضيعِ الوحيدِ، فقاما بنقله للمستشفى، إلا أنهما - وباتفاق مسبق - أخرجاه أثناء وقت الزيارة دون أخذِ إذنٍ من الطبيب المعالج وقبل استكمال العلاج المقرر، بحجة أن الطفل لا تزداد صحَّتُه إلا سوءاً!!
وطرقا بابَ الطب الشعبي ودخلا في سراديبَ مظلمةٍ من الجهل حتى تحولتْ لحظاتُ التشنجِ إلى نوباتٍ طويلةٍ من الصرع المتكرر! وأضحى كلُّ مُدَّعٍ للطب ينصحهما بعدمِ مراجعة الأطباء لأنهم لا يدركون أسبابَ الصرع الناتجة من تلبُّسِ الجن بالطفل الرضيع..
رويداً.. رويداً أمست صحةُ الطفل تنهار على مرأى والديه حتى لا يكادان يلحظان أي تغيرٍ يطرأ على نموه.. ولم يُعيرا ذلك اهتماماً بسبب قلةِ وعيهما لانعدام تعليمهما فإذا علمتَ أن (سعد) لا يعرفُ عن المدرسة إلا أنها معتقل يُربَّط فيه الصغارُ والكبارُ في مقاعدَ خشبيةٍ ثم يخرج الشابُ موظفاً يقبعُ خلف أحد المكاتب وينتظر آخر الشهر استلام الراتب الذي ينفقه في علاج رجليه من آلام الروماتيزم من كثرة الجلوس، عندها تدركُ مدى معاناته حين يجمعه المكان مع أشخاصٍ يتحدثون بانبهار عن آخر مبتكرات (الإنترنت) فيكتفي بجملته الشهيرة (الله يجيرنا!) إلا أن تلك المعاناةَ تنتفي - تماماً - حين يدلفُ منزله ويغلقُ بابه بإحكامٍ في محاولة لصدِّ التيار الحضاري القادم والذي يقتلعه من جذوره فما بالك بالباب!!
وتتسع ابتسامته وهو يرقب زوجته وهي تبادله نفسَ المشاعر وتستقبله ببشاشةٍ وتجدُ نفسها - فكرياً - معه أكثر مما تجدها مع إخوانها الذين سافروا وتغربوا لينالوا الشهادات المتخصصة..
وهي حين تهمُّ بطلبٍ شخصيٍ لها تجدها تُعرِّض للموضوع ولا تدخل به مباشرة خشية من تكدُّر خاطره، فهي ترغبُ بزيارة أسرتها بإحدى القرى المتاخمة للمدينة حيث أخبار أسرتها مقطوعة منذُ أن تعطلَ الهاتف! والحقيقة أن الهاتف يعمل بكفاءةٍ سوى أن برمجة الاتصال المختصر لا تعمل بسبب تقادم البطارية فهي تأخذ جهاز الهاتف ليقومَ أخوها (أحمد) بالبرمجة المتُّفقِ عليها:-
الوالدة رقم (1) بيت الوالد الثاني رقم (2) أختي حصة رقم (3) أهل سعد رقم (4).. في آخر القائمة!!
وهكذا يتمُّ التواصل مع أسرتها ومعارفها دون معرفةِ الأرقام الحقيقية لهم لسبب بسيطِ وهو أنها لم تتعلمْ مطلقاً!!
ويهونُ أمرُ الاتصالِ حين تقاربه بمعاناة الصغير الذي أصبحت الإعاقةُ الجسديةُ والفكريةُ تظهر عليه من أثر نوبات الصرعِ المتكررة دون علاجٍ سوى الفاتحة والمعوذات التي تتلوها أمُّه عند كلِّ نوبة وقراءة المعوذاتِ في جميع الأحوال أنعم بها، ولو أضافت العلاجَ المخصصَ للطفل من قِبلِ المستشفى لعقلتها وتوكلتْ!!
أصبحت (أم سالمٍ) لا تحبِّذ الاجتماعاتِ العائليةَ لأنهم يتحدثون بلغةٍ لا تكادُ تفهمها، كما أنهم يلومونها على إخراجِ ابنها من المستشفى دون معرفة الطبيب ومتابعة العلاج.
وتزدادُ حيرتُّها حين ترى (أم هيثم) يزدادُ ابنها صحةً ونمواً على الرغم من أنه كان يُعاني من الصرع، ونتيجة لاهتمام والدته بصحته وبمواعيد الدواء لم تعاوده نوبات الصرع منذ أكثر من ستة أشهر، وحين تُقارنُ بين وليدها وبين (هيثم) ينتابها الضيقُ ولكنها أبداً لا ترى أن السبب هو المحافظة على العلاجِ ومواعيدِه الدقيقة وكميَّاته المعيَّرة وتعزو ذلك إلى الابتلاء وأنه لابد من التوكل على الله والصبر، ويغيبُ عن بالها حديثُ المصطفى صلى الله عليه وسلم (تداووا فما أُنزل داءٌ إلا وله دواء)، وقبل ذلك نسيت تماماً أن أول آية أُنزلت على خير الخلق النبي الأمي هي قوله تعالى (اقرأ).
وحين تناقشها محدثتها عن ضرورة التعليم الآن وتحثها على الانضمام لمدارس محو الأمية المسائية تضع طرفاً من غطاء رأسها على فيها، وتُشيحُ بوجهها، وتطلقُ ضحكتَها المتهكمة ومثلَها الجاهز (يوم شاب ودُّوه الكُتَّاب).
نعم يا أم سالم، ليس كُتَّاباً الآن بيد أنه مركز إشعاع، إنها المدرسة يا عزيزتي، اخرجي من السرداب المظلم إلى الفضاء المضيء، انزعي غطاء الجهل، وارتدي وشاحَ العلمِ، فنحن بحاجةٍ إلى ابِنكِ سالمٍ وهو سالمٌ! ونحن بشوقٍ إليكِ في طابور العرض العلمي.
تعَلَّمي يا أم سالم لتعْلَمي مدى أهمية العلاج لابنك ولأسرتكِ، وضرورة العلم في تشغيل أجهزة منزلك، ولبناءِ مسكنكِ وحتى حياكةِ ملابسكِ!
ولن تضيقي قط حين تجمعك المناسبات بأفراد عائلتك وجيرانك لأنك ستفهمين حديثهم وستتبادلين مع (وفاء) كتبَ الطهي وتعرفين المعايير الدقيقة المخصصة لعملِ المعجَّناتِ، والحلويات.
هذا العالم المجهول الذي ينتظرُك، هو معلومٌ لغيرك عبر ثماني وعشرين خطوة.. أقصدُ حرفاً، وستتحول الصحيفة اليومية لديك إلى انتظارٍ جميلٍ لخبرٍ أو حدثٍ أو معلومةٍ أو حتى كاريكاتير باسمٍ بدلاً من لفِّ أغراضِكِ بها!
ولن تتساوى أمامك الورقُ والقصاصاتُ، بل سيكون لكل ورقة معنى، ومعنى جميل، فورقة الأغراض المنزلية لن تتساوى أبداً مع كشف حساب البنك أو شهادة ابنك سالم! الذي سيكون لنجاحه طرقاتٌ ساحرة على قلبك لأنك ستكونين شريكة نجاحه.. لا بل ستكونين شريكة مواطنيك في اقتسامِ كعكةِ النجاحِ الكبيرة باتساعِ رقعة هذا الوطن!
بالعلم، اُخترعت الثلاجة والمكيفُ والهاتفُ والأدويةُ، وحتى سجادة الصلاة التي تضعين جبينَكِ عليها أربعاً وثلاثين مرة في اليوم، عدا النوافل!
كلُّ ما حولك نتيجة العلم وليس بفعلِ الجن كما يصوِّرُ لك ظلامُ الجهل.
العلم نورٌ، وكما يضيء هذا النورُ الأنفاقَ والكهوفَ فينجلي الخوفُ والرهبةُ من المكان، يشعُ العلمُ في عقولِ البشرِ فتختفي الأوهامُ والوساوسُ من الصدور!!
****** مع التحية لخريجات الدفعة الأولى من الثانوية العامة لمحو الأمية هذا العام، وقسم تعليم الكبيرات.
ص.ب 260564 الرياض 11342
|