التسول ظاهرة إنسانية تفرضها عادة الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولا يمكن على الإطلاق اختزالها فقط في تلك العلاقة المباشرة مع الفقر، أو في المستويات الدنيا من المجتمع، فقد يكون التسول عند البعض مهنة، يكسب منها المال الكثير من دون مشقة، ويظهر اجتماعياً بصورة شديد الوضوح من خلال تجنيد بعض الأطفال وعدد من النساء عند إشارات المرور، وبالتالي تأمين دخل جيد ومنتظم للمدير التنفيذي لتلك الكتيبة المتسولة، والذي تنحصر مهماته في تنفيذ خطة الانتشار سريعاً في اتجاه السيارات عندما تضيء إشارات المرور باللون الأحمر، ويمكن أن يظهر بأساليب أكثر تعقيداً في أنماط اجتماعية نخبوية ومتميزة بطقوسها وكواليسها الجذابة.
وفي ظل غياب دراسات عن أحوال هؤلاء المتسولين ستظل الحقيقة تتسول بالقرب من أبواب الظن والتخمين، ثم التردد بين مساءلة المسؤول عن أسباب تلك الجماهير التي تحترف التسول في المدن الكبيرة، ولماذا يكثر هؤلاء بالرغم من اتساع سوق العمل.
وبالمناسبة لم تقتصر هجرة الوافدين من الخارج الى السعودية بحثاً عن عمل على قدوم العمالة، إنما تجاوزتها الى ظهور وافدين محترفين للمهنة، وربما أكثر عدداً، ومهارة من المتسولين المواطنين، فالخبر الذي يؤكد أن السلطات الأمنية اليمنية تسلمت من نظيرتها السعودية مؤخراً 15 طفلاً يمنياً من الذين تم تهريبهم الى الأراضي السعودية عبر شبكات خاصة احترفت تهريب الأطفال اليمنيين إلى السعودية لممارسة التسول والبحث عن أي فرص للدخل علامة على نشوء ظاهرة استقدام المتسولين من الخارج.
وإحصاءات البنك الدولي الأخيرة التي أعلنت، أشارت إلى أن تحويلات العمالة الوافدة من السعودية إلى الخارج في المركز الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة، لكن الإحصائية لم تشر إذا كانت تحويلات المتسولين تدخل ضمن تلك العمليات لنقل الأموال إلى الخارج، فربما استخدم هؤلاء طرقاً أكثر أماناً، وأبعد عن عين الرقيب.
والتسول كسلوك ينتشر في مجالات كثيرة كالتجارة والإدارة، وفي عالم السياسة الدولية، وبالمناسبة التسول سياسياً فن لا يجيده إلا السياسي الماهر، والذي يعرف أن شجاعة الشجعان لا تنفع إذا رأى القطب الأوحد عدم تنفيذ القرار الدولي، عندها قد تأتي سياسة التسول بما لم تأتِ به سياسة المواجهة والتصعيد، ولكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على حال العرب، فهم فشلوا في تنفيذ القرارات الدولية التي في مصلحتهم حتى من خلال وسائل التسول البدائية.
ومن أنماط التسول المثيرة في الشرق العربي، تسول المثقفين، فالمثقف العربي يمتلك قدرات باهرة في كيفية التسول عند السياسيين، وبالرغم من تقدم تلك الظاهرة عربياً إلا أنها لا تزال سرية المعتقد، وتتميز بطقوس وسلوك مختلف، يصعب على الراغب الجديد معرفة أسرارها وإتقان أساليبها، وتفتقر المكتبة العربية إلى مرجعيات تراثية ترصد تطور تلك الفلسفة القديمة عربياً، التي حمل لواءها في الغرب فلاسفة متميزين عالمياً.
والتسول كثقافة هو نتاج بيئة سلطوية، تغذيها الميكافيلية، وهي نظرية فلسفية نشأت خلال فترة انتقالية، وتعمل على استمرار ممارسة سياسات السلطة الواحدة تماماً كما صورها ميكافيلي في كتابه ( الأمير) وتتضمن التالي: استلام وتوسيع والحفاظ على السلطة المطلقة بواسطة استخدام تدريجي ولطيف للخديعة والقوة والعنف والنفاق، ثم السيطرة على كل اتجاهات وطرق الاتصال وبالتالي التمكن من صياغة وعي العامة، ثم استخدام بعض التابعين الذين من الممكن التبرؤ والتخلص منهم في أنشطة مراقبة الآخرين، مما يمكن السلطة من التخلص من اللوم المباشر.
لكن خروج الرأسمالية، ونزوعها القوي للتسلط والمشاركة والدمج والتوحيد وخلق تراتيبية جديدة في المجتمع، ليس في المجال الاقتصادي وحسب، بل أيضاً في الحياة الاجتماعية، أدى الى خلق أنساق وأولويات مستجدة في الأخلاق والثقافة والسياسة.. وفي رحم تلك البيئة ولدت وانتشرت الفلسفات اللاميكافيللية، التي شملت أوجه الحياة المتعددة، ثم أظهرتها بشكل جديد ومختلف، فظهر هيغل ( الجدلية)، وماركس ( المادية الجدلية)، وروسو ( العقد الاجتماعي)، ومونتسكيو ( فصل السلطات)، وجون لوك، وآدم سميث، وريكاردو، وجون ستيوارت ميل وفرانسيس بيكون.
أدت تلك الاختراقات الفلسفية الى إعادة تشكيل مفاهيم السلطات في المجتمع، وبالتالي صعود قوى اجتماعية جديدة في ظل مفاهيم الحرية والمساواة والقانون، مما أسس ما يطلق عليه بمؤسسات المجتمع المدني، التي تعني مشاركة الجميع في عملية التنمية، وبالتالي سقوط قوى التسول وانحسارها في جيوب اجتماعية ضيقة..، وأيضاً بروز أجواء جديدة للإبداع الفردي، فالإنسان يبدع وينتج إذا توفرت له الضمانات الاجتماعية والقانونية، والحرية الاقتصادية والثقافية.
المثير في الأمر هو ما قاله عراقيون أن ظاهرة التسول التي كانت متفشية في عهد النظام السابق تراجعت نتيجة عدة عوامل أحدها دخول منظمات وجمعيات خيرية غربية وعربية إلى البلاد حتى وصل عددها حسب بعض الإحصاءات أكثر من مائتي منظمة وهيئة، كما يصف مراقبون من داخل المجتمع العراقي ظاهرة انحسار تسول الأطفال بشكل ملحوظ وفق شهادات كثير من العراقيين، الذين يعزون ذلك لانتعاش حركة السوق مما خلق فرص عمل لهؤلاء جعلت منهم حمالين وموزعين للمشروبات الباردة والمياه والصحف اليومية.
وسيعود أهل العراق إلى سالف عهدهم إذا لم يدركوا جيداً مساوئ الحكم الشمولي بعد تجربة البعث الفاشلة، وضرورة الانتقال إلى مرحلة العهد الإنساني الجديد، الذي يوفر للمجتمع الحرية الكافية للعمل من أجل أمنه واستقراره ومستقبله، وعليهم أن يحذروا من جاذبية الشعارات البراقة، التي مهما عملت على تحسين مظاهرها الخارجية في البدء، إلا أنها تحمل في رحمها أجنة الاستبداد والطغيان والتسول بجميع أنماطها وأساليبها.. الملتوية!
|